في بورتريه ذاتي كتبه قبل وفاته بعامين، يقول روبرتو بولانيو إنه «نشر خمس مجموعات شعرية، كتاباً واحداً للقصص القصيرة، وسبع روايات. تقريباً لا أحد قرأ قصائدي، وهو ربما أمر جيد. لكتبي النثرية بعض القراء الأوفياء، ربما دون سبب وجيه».
رغم حسّ الفكاهة المعتاد لبولانيو المتهكم الساخر، يبدو أنه قدّر دائماً شعره. بل إنه عبّر مرات عدة عن تفضيله لشعره على رواياته الأكثر شهرة. في واحدة من آخر مقابلاته (مع الطبعة المكسيكية من مجلة «بلايبوي») سُئِل: «ما الذي يجعلك تظن أنك شاعر أفضل منك روائياً؟»، «أَحكُم»، أجاب بولانيو: «من كمِّ تورُّد وجهي خجلاً حين أفتح كتاباً لشعري أو لنثري. الشعر يجعلني أتورد بدرجة أقل». بعيداً عن آراء بولانيو نفسه، فإن قصائده، رغم أنها مثيرة للاهتمام وتضم سطوراً رائعة (مثلاً: «العنف مثل الشعر، لا يصحح ذاته» أو «جهازي العصبي ينفر مثل ملاك») – قصائده تلك أقل اكتمالاً من نثره. مكتوبة بأغلبها أثناء سنوات عمره المبكرة، يبدو شعره مثل كتابة أولى لشاعر كبير. إنها عمل شاعر شاب واعد ينتظره ربما مستقبل عظيم. غير أن هذا المستقبل الموعود لم يتحقق قط. في سنواته الأكثر نضجاً، حين لم يعد متسكعاً في شوارع برشلونة التي غادرها إلى بلدة أكثر هدوءاً، تخلو من إلهاءات المدينة الكبيرة وصخبها، حيث أمكنه التركيز على الكتابة، هجر بولانيو الشعر إلى حد كبير، وكتب رواياته التي اشتهر بها: «الأدب النازي في أميركا» (1996)، «المحققون المتوحشون» (1998)، ومطولته 2666 التي تركها لتُنشر بعد وفاته، وصدرت بالفعل عام 2004.
ورغم هذا، كان بولانيو يرى نفسه شاعراً في المقام الأول، وكان مهتماً بقصائده إلى درجة أنه رتب مجلداً طويلاً يضم معظمها كي يُنشر بعد وفاته. مجلد «الجامعة المجهولة» الذي صدر عام 2007، تفتتحه ملحوظة من ورثته يخبرون فيها القارئ بأن بولانيو نفسه ترك المجلد مرتباً، ومكتملاً، ومؤرخاً في عام 1993. لقد زوده حتى «بفهرس ومقدمة تفسيرية قصيرة، بتواريخ وأصول القصائد». في الملحوظة نفسها، يُضمّن الورثة قصيدة غير منشورة، مكتوبة في أكتوبر 1990، وعنوانها «مسيرتي الأدبية»، يمكن عدّها بورتريه شخصياً آخر: «تحت الجسر، بينما تمطر، فرصة ذهبية/ كي أُلقي نظرةً على ذاتي:/ مثل ثعبان في القطب الشمالي، لكن أكتب./ أكتب الشعر في أرض الحمقى./ أكتب وابني على ركبتي./ أكتب إلى أن يهبط الليل/ بالرعد وألف شيطان./ الشياطين التي ستحملني إلى الجحيم،/ لكن أكتب».
على عكس أعماله النثرية التي يبذل فيها من خبراته الذاتية كي يخلق شخصيات قصصية شبه متخيلة، فإن أغلب قصائد «الجامعة المجهولة»، خاصة المبكرة منها، تأتي مباشرة من سيرته الذاتية، ومكتوبة بضمير المتحدث. في الأقسام السبعة الأولى المؤرخة بين 1978 و1981، نرى الشاعر نفسه في برشلونة. في «برشلونة فاجأتني وأرشدتني»، تبدو بعض القصائد مثل يوميات لتفاصيل حياته ومشاغله. تهتم في معظمها بتيماته الأثيرة في تلك الفترة: الحب الضائع والفقر، ويسكنها أيضاً قلق وجودي. هذه، على سبيل المثال، هي القصيدة غير المعنونة التي تفتتح المجلد: «تتمنى أن يبتعد القلق/ بينما يهطل المطر على الطريق الغريب/ حيث تجد نفسك/ المطر: فقط أتمنى/ أن يبتعد القلق/ أبذل قُصارى جهدي». لكن في نهاية قصيدة بعنوان «النقود»، يعلن بولانيو سعادته رغم نقص ماله، وقلبه المكسور، وقلقه المتكرر. يؤكد شعوره بتلك السعادة مرات عديدة: ثمة قسم في «الجامعة المجهولة» بعنوان «لن يحدث لي أي سوء» وسطور من قبيل: «ما لم يتشكل بعد سوف يحميني» و«أحياناً أكون سعيداً بما لا يُصدَّق» و«شاعرٌ من نوع ما/ خالي البال وسعيد». ربما من الممكن رد هذه السعادة إلى ثقة بولانيو بمستقبل أدبي باهر ينتظره، أو ربما إلى برنامج عمل يبدو أن الشاعر الشاب المفلس واهن الجسد قد اختطه لنفسه: «لا تمرض أبداً/ اخسر كل المعارك/ دخن بعينين نصف مغمضتين .../ .../ كن واحداً، كن ضعيفاً، استمر في الحركة». هكذا تبدو سكينة بولانيو في هذه القصائد المبكرة كما لو كانت تخص شخصاً تخلى عن الطموحات المادية، ومكاسبها المحتملة، من أجل شيء في أهمية، أو لا جدوى، الأدب. لكن أن يقول المرء إن شعر بولانيو أقل اكتمالاً من رواياته لا يعني بالضرورة أن قصائده سيئة، أو أنها كتابة بدايات محرجة. لا يتعدى الأمر أن تلك القصائد هي فقط نتاج عبقرية أدبية ما زالت بعد في سنوات التكوين. في حقيقة الأمر، تتضمن القصائد نفس السمات التي ستدمغ بعدها رواياته ذائعة الصيت: الحب، ألم فقده، الجنس، عقل بذيء على نحو ساحر يضفي مزيداً من الارتباك على عالم مرتبك، حنين لا ينتهي إلى مكسيكو سيتي، الاحتفاء بالصداقة والأصدقاء ورثاء فقدهم، الكتابة عن الكتابة، الانشغال بهدف الكتابة وعلاقتها بالعالم، غياب الجذور والهيام في أرجاء جغرافيا إسبانية/إسبانية-لاتينية، المنفى القسري والطوعي، التوحد والعزلة. شعر بولانيو مهم في ذاته إذن، وليس فقط كملحق على هامش أعماله النثرية، ومن الضروري أن يُقرأ، إن لم يكن لشيء فتكريماً لخداع روائي كبير لذاته وفكرته الواهمة عن نفسه كشاعر أكثر أهمية.

ملحوظة: الاقتباسات من ترجمة كاتب المقال عن الإنكليزية