ككل عام، نحتفي بهذا الموعد الأساسي في الحياة الثقافيّة اللبنانيّة. المعرض الفرنكوفوني للكتاب هو بلا شك محطّة لا يمكن تجاهلها، ولا تجاهل دورها الحيوي: الترويج للكتاب وتشجيع الناشرين، وتسليط الضوء على إصدارات حديثة في فرنسا وعالم الفرنكوفونيّة، وخلق مجالات التفاعل بين القرّاء والمهتمّين والمثقفين والجامعيين والجيل الجديد من جهة، والكتّاب من جهة أخرى، مقيمين كانوا في الثقافة العربيّة [وإن بلغة موليير مثل صلاح ستيتية ورامي زين وشريف مجدلاني]، أو ضيوفاً عليها…
وأهميّة هذه التظاهرة الكبرى طبعاً، هي في خلق فضاء للحوار والنقاش حول قضايا وشؤون فكريّة وأدبيّة وفنّية وتربويّة وسياسيّة وحضاريّة وتكنولوجيّة إلخ. ولا بدّ هنا، من التوقّف عند انفتاح المعرض المتزايد في السنوات الأخيرة على المبدعين والاصدارات باللغة العربيّة، بعدما أقام لسنوات طويلة جداراً فاصلاً يقصي، بشكل عام، كل ما ومن له علاقة حصريّة بلغة الضاد.
وككل عام أيضاً، نبدي تحفظنا على السياسة التي يخضع لها المعرض الفرنكوفوني للأسف، إذ تطغى عليه صبغة سياسيّة وفئوية ترشحان بذهنيّة ما بعد كولونياليّة مثيرة للضحك، وللغضب أحياناً. لنعترف أن هناك فئة من اللبنانيين من وسط سوسيو - ثقافي واحد في غالبيّتها، لم تخرج من «الغيتو»، ولم تنتبه إلى حركة التاريخ. ولعلّ أعيان هذه الفئة ونخبها يحنّون إلى زمن الانتداب الفرنسي، ويظنّون أن «حمايتهم» من «الرعاع» الزاحف، لا يمكن أن تكون إلا بالإختباء تحت تنورة «الأم الحنون» فرنسا. لا يريد هؤلاء للوصاية الاستعماريّة أن تنتهي، ويتخيّلون أنّهم ما زالوا في حاشية المندوب السامي ربّما. هذه الحقيقة هي من إفرازات الواقع اللبناني المركّب والمعقّد، ومن نتائج ترسّبات تاريخيّة لن نصفّي حسابنا معها إلا تحت راية الوحدة الوطنيّة، في جمهوريّة حديثة وقويّة ودولة عادلة ومستقلّة. لكن ما لا نفهمه أن تستكين السياسة العربيّة لفرنسا إلى مثل هذا المطبّ الفئوي الذي يتنافى مع قيم «الجمهوريّة». كيف يمكن لحدث ضخم مثل «معرض الكتاب» ترعاه السفارة الفرنسيّة في لبنان، مع سفارات فرنكوفونيّة أخرى، أن يخضع حصريّاً لأجندات وإملاءات وخيارات فئة سياسيّة محددة؟ هل نفرط في المثاليّة إذا طالبنا السفارة الفرنسيّة بالانفتاح على جميع اللبنانيين، بحيث يتسع معرض الكتاب لمختلف الحساسيّات السياسيّة والثقافيّة، دونما تمييز أو أبلسة أو إقصاء؟ هل يليق ببلد أراغون ودريدا وفوكو… أن يرعى برمجة ثقافية تقررها فلول «الانعزاليّة المسيحيّة» (من دون أي تعميم طائفي طبعاً)؟ أن ينفّذ أجندة سياسيّة تنصر جماعة على أخرى، وتؤبلس الجزء الأكبر من اللبنانيين فتجعل من «الصالون» آخر معاقل ما يسمّى بـ 14 آذار في لبنان؟ وقاعدة للمحور الاستسلامي العربي؟ برنامج الندوات الفكريّة يعطي هذا الانطباع بشكل سافر، ما جعل أحد المعلّقين الخبثاء يلاحظ أن الندوة المخصصة لفلسطين في المعرض، لم يكن ينقصها إلا مشاركة… زياد دويري!
قد تتنوّع التبريرات والتفسيرات لهذه العلاقة التاريخيّة بين المعهد الثقافي الفرنسي والشركاء المحليين الحاليين في تنظيم المعرض. ونحن نصغي إليها بإهتمام، حتى أن هذا الملحق يفسح مكاناً لوجهة النظر الأخرى التي تحاول ردّ التهمة أو تلطيفها. لكن كل ما نطالب به هو تنزيه الثقافة ما أمكن عن المصالح الاستراتيجيّة ـــ علماً أن الرئيس ماكرون يبدو حتى الآن، في سياسته الشرق أوسطيّة، أقل تهوّراً من سلفه البائس هولاند ـــ وجعلها حاملة للقيم الكونيّة، وقيم الجمهوريّة القائمة على الحريّة والمساواة والأخوّة.
نعم، ندافع عن فرنكوفونيّة تقدميّة تحمل الفكر التنويري والنقدي، ولخطاب حركات التحرر. فرنكوفونيّة تتسع لتيّارات أخرى غير اليمين ما بعد الكولونيالي، ولمجموعات وشرائح أخرى في لبنان تقرأ وتنطق وتفكّر بلغة فولتير، غير سكان المثلث الذهبي. ونتمسّك بفرنكوفونيّة عالمثالثيّة وعربيّة تعبّر عن قضايا «ملعوني الأرض»، وتتصدّى لوصاية الرجل الأبيض، وتزدري فوقيّته وهيمنته. هنا ننفذ إلى عمق أعماق الثقافة الفرنسيّة، أو على الأقل نحصل على نصيبنا منها: إنّها التركة التي نتمسّك بها ليس في هذا المقلب (الملعون) من العالم فقط، بل في قلب فرنسا المعرّضة اليوم لما نعرفه من الهزّات الكيانيّة والتحديات المصيريّة.