«يصنع الشاعر ثورته داخل الثورة الثقافية، إنه صانع القلق الأكبر داخل الاضطرابات العظيمة، الثورة في شكلها العاري، حركة الحياة في انفجارها اللانهائي». لا يمكن فصل تاريخ حياة وأعمال كاتب ياسين (١٩٢٩ـ١٩٨٩) عن الجزائر التي «يصعد النبض من أعماق جموعها، ليحمل الشاعر على الأكتاف مثلما يُحمل بطل الملاكمة».
الشاعر والروائي والمسرحي الذي سيستكشف يافعاً (١٩٤٥) فظاعة الاستعمار الفرنسي لبلاده إثر توقيفه وسجنه، لن يلبث أن يستعير لغة المستعمرين نفسها مثل «سلاح يتم انتزاعه من يد مظليّ عدو» ليكتب للعالم بالفرنسية رائعته الروائية «نجمة» (١٩٥٦) ومسرحية «الجثة المطوقة» (١٩٥٨) و«المضلّع النجمي» (١٩٦٦) و«الرجل ذو النعل المطاطي» (١٩٧٠) وديوان شعري بعنوان «مناجاة» (١٩٤٦)، ليجعل الجزائر تخاطب فرنسا ثقافياً من موقع الند، ويتناول بلده في تاريخ نضالها الطويل وهويتها المتعددة العربية والأمازيغية والفرنكوفونية.
سنوات طويلة بين ١٩٧٠ و١٩٨٧ توصف بسنوات الصمت لكاتب ياسين، بعد عودة للجزائر من فرنسا لتأسيس فرقته التي كانت تجوب الجزائر بأسرها بمسرحيات باللهجة المحكية التي يفهمها الجزائريون أكثر من اللغة الرسمية الفصحى التي لا تتداولها الا حفنة من «بورجوازيي الثورة»، في مشروع طموح كان يهدف لإعادة احياء المدرجات الأثرية المفتوحة وجعل الجزائر بأسرها مسرحاً، وقبل صعود نجم الأصولية الدامي في أواخر الثمانينات، وهو الشبح الذي تنبأ كاتب ياسين ظهوره مبكراً ليرث الثورة المغدورة. سينطفئ كاتب ياسين في «فم الذئب»، منفاه الاختياري الفرنسي في مدينة غرونوبل، عام ١٩٨٩، ليدلي قبل موته بسنة بحديث مسهب لصحيفة Libération يلخص تجربته الطويلة في المسرح وآراءه حول الشعر والكتابة. الكاتب الذي لم تترجم جلّ أعماله للعربية تتولى «الأخبار» هنا ترجمة حديثه الصحافي الأخير:
حين أفكر بالمسرح، أول من يطفو على سطح الذاكرة هي أمي. كنت طفلها الوحيد. لم تكن الأختان قد ولدتا بعد. حين يتأخر أبي في السهر مع صحبه، لم يكن لها غيري. كانت تخاف وحدها في الليل، فتبذل أقصى طاقتها لتسليتي ومنعي من النوم. هكذا ابتدعت أمي مسرحها الرائع: ما أن يهم أبي بالخروج حتى تشرع بأخذ ثأرها بتقليد صوته الأجش، ثم بارتداء ثيابه، فمحاكاته في أدق التفاصيل. كان في وسعها لاحقاً أخذ صوتي الطفولي، والتحول الى مرآة حقيقة وفورية لكاريكاتورات حادة. لم تخرج من الدار إلا لماماً، كانت ترى حفنة صغيرة من الناس والأشياء، لكنها كانت تبصر بشكل أفضل، و«تعطي النظر» بحسب مقولة بول ايلوار الشهيرة: نظرة استثنائية للعالم باللمحة الخاطفة للولد الرهيب.
مرة أخذنا القطار معاً، من سطيف الى قسنطينة. أعادت من أجلي تمثيل هذه الرحلة الصغيرة بأسرها: المحطة، المسافرون، أصواتهم، لكناتهم، سحناتهم، حتى نبرات سعالهم، الضجيج، كل الضجيج في المحطة. كان يجب سماعها تصرخ وتصفر مثل مركبة آلية! وبأي حنين مصاحب... وحيدة مثل معظم النساء في بلدي، كانت تبصر، تبصر كل شيء بتلك الشراهة. في زمن آخر، في بلد آخر ربما، كان يمكن لها أن تكون ممثلة. وبينما تستنفد أمي أقصى طاقات الفن المسرحي ويتسلل النعاس الى جفنيّ، تدق عصا أبي الباب. يُستكمل المشهد العائلي بالشعر، لأن أبي أيضاً كان يحب الشعر، ويؤلف الأغاني، ويقرأ النصوص. كل العائلة كانت مصابة بالفيروس الأدبي أو الفني: جدتي وجدي، عمومتي، خالاتي، أقاربي: سمر العشيرة كان لا يجد نصيبه من التعب.

سلطة السياسة أو سلطة المال،
كلاهما يستولد الرقابة والرقابة
الذاتية. ليس هناك من عالَمٍ حر

حين أفكر بالمسرح، تخطر ببالي العشيرة إذن، كذلك جان ـ ماري سيرو، كأنه عضو اللجنة المركزية في مجلس الأجداد.
١٩٥٥: مجلة Esprit شرعت بنشر «الجثة المطوقة» أول أعمالي التراجيدية. كنت أسكن عليّة صغيرة في شارع ريفولي الباريسي ولم يعد بمقدوري الكتابة: مسكني تحول الى مقر دائم لشبيبة مناضلة تقضي وقتها في طرح الأسئلة والتهام الجرائد، كنا نكافح من أجل الجزائر، ونكافح بعضنا البعض كجزائريين، بين مناصري جبهة التحرير الوطني وحزب مصالي الحاج الذي كان يحظى بتأييد وتعبئة ملفتة في فرنسا. ذات صباح، سمعت طرقاً على الباب. بما أنها «ساعة بائع الحليب»، توقعت أن تكون الشرطة. أخطأت التقدير، كان جان ـ ماري سيرو. لقد انتهى للتو من قراءة «الجثة المطوقة» وها هو يقترح نقلها الى الخشبة. سريعاً ما توصلنا الى اتفاق فيما بيننا، وطفنا بالعمل المكتوب كل مسارح باريس. كانت الحرب في الجزائر. أغْلقت في وجهينا كل الأبواب، واضطرتني ظروف مباغتة أن أترك غرفتي، ومن ثم فرنسا بأسرها. انتقلت بدايةً الى ايطاليا، من بعدها الى تونس من أجل عرض المسرحية في قرطاج بواسطة مجموعة من الطلاب الشبّان. بما أن جواً من التسلط والتنافر قد طغى على المجموعة، وكوني لا أملك أي تجربة مسرحية، أرسلت برقية لسيرو بالتلغراف، دونما أمل كبير بمقدمه، بسبب مشاكله المادية. وصل سيرو بسرعة البرق. بكلمات قليلة، أعاد جمع شتات الجوقة. بما أن مسؤول الطلاب كان قد باع التذاكر غالياً، وأن الجزائريين من مناصري جبهة التحرير كانوا موجودين بكثرة في تونس ولم يتلقوا إلا دعويين للمسرحية لا أكثر، دخلنا من النافذة الى أحد مكاتب البيع وصادرنا نصف التذاكر لتوزيع معظمها مجاناً للمارة وعابري السبيل. رغم أننا رأينا رهطاً من البدو الرحل يدخلون المسرح بنسائهم وأطفالهم، وأصداء صرخات الممثلين اختلطت بصرخات الغوغاء، فقد كانت سهرة رائعة، وأول نجاح لي في المسرح.
بعد عرض «الجثة المطوقة» في باريس وبروكسيل في ظروف شبه سرية بسبب الحرب، كان علينا انتظار الاستقلال لنعرض على الملأ «المرأة المتوحشة» فوق خشبة مسرح ريكامييه الباريسي والمسرح الوطني في الجزائر. في هذه المسرحية، كنت أفكر بأن أعرض صقراً على شاشة. سيرو كان يعرف ممثلاً من السنغال، بشير توريه. هذا الحضور، هذا الصوت كان يحمل أجمل ما وجده توريه في الفولكلور السنغالي من أغاني الأجداد المتعلقة بالصقور. يجب أن يكون سيرو، الذي كان ممثلاً قبل أن يصير مخرجاً، وضليع المعرفة بالممثلين ليس من فرنسا فقط بل من افريقيا، لإتمام مشهد مماثل.
«لقد اكتشفت بسرعة، يقول سقراط، أن الحكمة ليست هي التي تقود الشعراء في خلق أعمالهم، بل قدرة طبيعية وإلهامات، تماماً كالآلهة والأنبياء حين يتلفظون بأشياء مماثلة، ولكن لا يفهمون شيئاً مما يقولون». الشعر يقول ايغون شيلي «ليس ملكة نمارسها بملء الإرادة. ملَكة يعجز أكبر الشعراء عن شرحها». بلايك يقول إنه كتب قصيدته العظيمة Milton دون تأمل مسبق. كيتس لم يكن واعياً بما كتبه وكأنه يصدر «من الصدفة أو من السحر»، كأن ما كتبه هو من ابتداع شاعرٍ آخر.غوته قال بأن الأناشيد هي التي صنعته لا العكس. بشكل أكثر نقاء، قال رامبو: أنا هو آخر Je est un autre، كذلك ووردسورث الذي كان في غيبوبة حين كتب أغنيته الشهيرة «الأشياء التي تسقط منّا وتذوي». لقد عرفت هذا الحال العجيب ذات شتاء، في باريس، حين كنت أنهي العمل بشكل متوازٍ على «نجمة» و«الجثة المطوقة». في أقل من شهرين، كان كل شيء قد انتهى. كنت في حالة من الفيضان مثل سيل الماء في العاصفة. كتبتُ جالساً، واقفاً، أثناء الأكل، في الصحو وحتى في النوم: كانت تزورني بغتةً أبيات أو جمل توقظني من سريري... كل ذلك يوضح حصة اللاوعي في عمل الشاعر أو الأديب. نحن هنا أبعد ما نكون عن السياسة
عشية الحرب الأولى وثورة أكتوبر، جيمس جويس كان شبحاً. ابتداء من ١٩٠٤، لم يعد مهووساً بشيء قط إلا بكتابة عمله الأكثر تجريداً. الأحداث الخارجية لم تكن لتؤثر فيه. كان يسافر دون كلل للبحث عن ملاذ. صديقة سألته يوماً إن كان يفكر بالعودة الى ايرلندا، يجيب: «هل تظنين أني رحلت فعلاً من هناك؟».
قضية الفن والسياسة معقدة لدرجة أننا لا نستطيع أن ندلو بدلونا فيها دون أن نعارض أنفسنا. بالزاك المحافظ سياسياً تحول الى Best_Seller في البلدان الشيوعية الثورية، وماياكوفسكي، الشاعر الثوري الأعظم وصل به الأمر الى الانتحار، بعدما وجّه الى صديقه إيسينين تهمة الجبن حين انتحر قبله بسنين معدودات.
هل يجب أن نجعل من الفن قضية دولة؟ نعم، من أجل أن نعطي الفنانين ما يمكنهم من العيش والخلق، وكلا، إن كانت الدولة تريد التحكم والرقابة. حرية التعبير تتطلب الاستقلالية. لكن يتوجب الاختيار ما بين الطاعون والكوليرا: سلطة السياسة أو سلطة المال، وكلاهما يستولد الرقابة والرقابة الذاتية. ليس هناك من عالَمٍ حر.
الحكم الوحيد، بالمبدأ، يجب أن يكون الجمهور. لكن اليوم يمكننا أن نؤمّن نجاح عمل فني دون رضى الجمهور، خصوصاً في عصرنا، يمكننا أن نخلق نجاحاً إعلامياً. الأدب حين يخطط له بدقة يخفت بريقه ويصبح آلياً. ما هي قيمة الفن عندها دون الخطر أو الصُدفة؟ اليوم، حين يتلقى الكاتب المحظوظ دفعة مالية من ناشره، يتطلب الأمر عاماً أو عامين على الأكثر ليصدر رواية. استغرقني الأمر سبع سنوات لكتابة «نجمة». ذلك أن الفن، مثل النبيذ الجيد، يتطلب الكثير من الوقت. لا تساهم العجلة والمتطلبات الاجتماعية الا بأن نسلم العمل الأدبي على الوقت لا أكثر. حين كنت لا أزال محرراً في Alger républicaine، علمني أحدهم أن أكتب بسرعة وتحت أي ظرف. اكتشفت على المدى الطويل أني بدأت أفقد أسلوبي. من أجل استعادته، تطلب الأمر سنوات طويلة من عمل الكاتب في العزلة والمشقة. هناك اذن، بشكل قاطع، بين الفن والسياسة، ديالكتيك أو جدلية للكتابة، يتطلب في آن واحد تجربة الحياة والعزلة. أن أكتب، بالنسبة إلي، هو أن أعيش هذا التناقض.
* كاتب ياسين، صحيفة «ليبراسيون»، باريس، العشرون من تموز، ١٩٨٨.
* «الشاعر ملاكماً، حوارات وأحاديث كاتب ياسين»، ١٩٥٨-١٩٨٩، دار سوي، باريس، ١٩٩٤.