ورَد في إحدى الدراسات الفرنسية أنّ على الآباء ترك أولادهم يشعرون بالملل والضجر خلال الصيف، وألاّ يخترعوا لهم نشاطات ورحلات وما شابه... لأن هذا الشعور هو ما سيدفع الطفل لاكتشاف هوايته وشغفه. هذا أمرٌ صحيح ومُجرّب، لكن من مضاعفات هذه التجربة ــ وهذا ما لا تذكره الدراسة ــ أنّ الطفل سيجرّ وراءه، طيلة حياته، خميرة كآبة وضجر كبيرة، قد تُفيده في إبداع شيء لاحقاً، لكنها ستُتعبه. يبدو الكاتب الأرجنتيني سيزار آيرا (1949) كواحد من هؤلاء الأطفال الذين تشرّبوا ملل فصول صيف طويلة، خاصة عندما يُخرج تنهيدة مع كل جملة خلال حواراته القليلة. يُشبه آيرا شخصاً قد تصادفه في موقع تصوير فيلم أو قاعة تحرير جريدة، شكله بسيط مثل حياته التي لا يحدث فيها شيء عدا القراءة والكتابة. «حياة مملة لا يهمني الكتابة عنها». لذلك، نجِد كل حكاياته فانتازية وغريبة. يعيش آيرا منذ الستينيات في حي فلورس في بوينس آيرس، ويكتب عنه أيضاً. كتب ما يقارب المئة كتاب بين النوفيلا والقصص والدراسات. في الحقيقة، لا يُمكننا تصنيف كُتب آيرا، وهو ذاته لا يهتم لأن عملية الكتابة هي كل ما يهمه والمتعة تتوقف عندما يرفع يده من فوق الورقة. يُمكننا تصنيف كُتبه على أنها روايات قصيرة، قصص طويلة، حكايات جنيّات، فانتازيات سوريالية حديثة، خرافات دادائية... لا يهتم. من الخطر التعامل مع كاتب لا يهتم، ولا يأخذ نفسه بجدية. لكنّ آراءه واضحة حدّ التطرف، «الرواية نوع أدبي أرهق نفسه وانتهى في القرن التاسع عشر، ما أتى بعد ذلك عند الكتاب الكبار في القرن العشرين شيء آخر... الرواية مستمرة حتى اليوم طبعاً، لكن بشكل تافه وتجاري في صيغة الـبيست - سيلر».

نشر كُتبه طيلة أربعين سنة في دور نشر صغيرة في الأرجنتين، المكسيك، تشيلي، الأوروغواي وصولاً إلى إسبانيا. دور صغيرة بجداول عمل غير تجارية، تقبل أن تنشر له حكاياته الفانتازية و«محاولاته» عن الأدب والفن والكوميكس بعدد صفحات يتراوح بين 20 و100 صفحة، حتى صار من الصعب عليه أن يعرف كم كتب من كتاب، ومن الصعب على قارئه أن يُلمّ بكل ما نشَرَهُ. وحتى اليوم وبعد الشهرة التي طالته، ما زال غير مهتم بعروض دور نشر كبيرة مثل «سوداميريكانا»، و«ألفاغوارا» وما شابه، بل دائماً ما سخر في حواراته من محاولات أصدقائه الناشرين والصحافيين لترويج أعماله عبر قنوات تقليدية، في الصحافة خاصة: «كلما وقع كتاب لي في يد قارئ عادي تجدِه يكتب رسالة لدار النشر يريد استرجاع نقوده».
عند آيرا هوس آخر، هو دفاتر الكتابة وأقلام الحبر. أراد أن يكون فناناً في شبابه، لكنه انتهى إلى أن الأدب هو ملك الفنون، واستمر في الرسم على الورق. يقول إنّه يشتري دفاتره، ذات الورق الأبيض غير المخطط، بعناية من عند نفس المطبعة التي تطبع أوراق البيزو. دفاتر بورق أبيض ناعم وأملس، تجعل قلم الحبر «مون ـ بلان» الذي يستعمله ينزلق عليها. لاحقاً، يعيد الكتابة على الكومبيوتر، لكنه منذ السبعينات يكتب بالقلم. في حواراته دائماً ما ينسى نفسه، ويتحدث عن «مصادر» شرائه لخرطوشات الحبر والدفاتر، وعن الأصدقاء الذين «يوفّرون» له المعدّات، كأنّها حشيش أو مخدرات.
الكتابة دائماً في الخارج. «صباحاً في المقهى، أجلس إلى دفتري وقلمي وقهوتي وأكتب». يكتب آيرا يومياً، صفحة كل يوم لا أكثر، يكتب ببطء شديد لكن من دون خطة مسبقة، تتطور الحكاية مع التقدّم في الكتابة. المهم أن يتوقف في نقطة يستطيع الانطلاق منها غداً صباحاً. «رغم التركيز ومحاولة تكثيف كل جملة، إلا أني أسمح لكل شيء بالدخول إلى نصّي، لو دخل عصفور من نافذة المقهى وكنت أكتب مشهداً صعُبَ عليّ الخروج منه، سأجعل العصفور يظهر فجأة وسط المشهد».
أهم شيء عند آيرا هو أن تكون الحكاية واضحة وكلاسيكية في البداية، أن يكون خط السرد واضحاً في البداية، ثم لا يهم أن تتدخل الفانتازيا ـ والخيال العلمي- بعد ذلك، لكن الوضوح والنثر البسيط الشفاف يبقيان الهدف الأول. «الأمر يُشبه لوحات سلفادور دالي مثلاً، حتى ترسم فيلاً بقوائم بعوضة، عليك أن تتجنب ضربات الفرشاة الغليظة». التشعّب والمصائر غير المتوقعة - التي قد تفشل في إبهارنا أحياناً- هي ما يخلق سحر كتابة سيزار آيرا، أو ما يسميه مصطفى ذكري ــ أقرب كاتب عربي لآيرا من حيث الأسلوب- بـ «المفاجأة الدرامية» والتي يقول عنها: «مع المفاجأة، أنتَ أمام موهبة الكاتب العارية من أيّ تحصينات، المفاجأة في الدراما من جِنس المقامرة».
ينتمي آيرا ــ مثل بورخيس- لسلالة كُتاب ذات تقليد أوروبي قديم. تقليد دائماً ما كان مُغيّباً، فهو رغم كل كتاباته حول الدادائيين والسورياليين وعلاقته بما أنتجوه، لكنه يجد نفسه في آبائهم الأوائل، ريمون روسّيل وألفرِد جاري ومارسيل ريجا. أمثلة للكتابة غير التقليدية والمُغيّبة في زمنها... البطء في الكتابة يأتي من هنا أيضاً، فرغم أنه ينشر بمعدل ثلاثة كُتب كل سنة، لكن آيرا يتقدّم في الكتابة ببطء، أو ما يسميه البعض أناقة البطء... مثل داندي القرن التاسع عشر، ومثل السلاحف أيضاً... مثل بورخيس، فآيرا دائماً خلف السلاحف، والكتابة ليست إلا استمراراً لعوالم القراءة الشاسعة والمكثّفة، التي تجنح من الكلاسيكيات إلى قصص الكوميكس.

يُمكننا تصنيف كُتبه على أنها روايات قصيرة، قصص طويلة، حكايات جنيّات، فانتازيات سوريالية حديثة، وخرافات دادائية


قراءة آيرا قد تكون عملية ممتعة وتجربة شفافة مثل كتابته، وقد تصبح معقدة وصعبة في أحيان أخرى. الكاتب يُصرّ في كل مرة على أن ما يحكمُ عملية الكتابة عنده هو أن يصِل إلى درجة من التلقائية ــ سبرِزاتورا، يقول الإيطاليون- يسمّيها اللامبالاة الأنيقة... لا يقوم ببحوث حول مواضيع كتابته، هو الذي لا يكتب إلا عمّا يجهله، مثلما يقول روسّيل، ولا يقوم بأدنى جُهدٍ للتحقّق من بعض التفاصيل العلمية والتاريخية التي يكتبها، مما جعله يتعرّض أكثر من مرّة إلى «محاكمات» صغيرة خلال بعض محاضراته، من قِبل أطباء أو مؤرخين يقولون له بأنّه مخطئ ويُغالط في بعض المعلومات. «غير مهم، هذا غير مهم، أنا أخترع كل شيء، ليس على الأشياء في الأدب أن تُشبه قريناتها في الموسوعات».
ورغم كل هذا، نجد اليوم حلقات قرّاء كاملة لأعمال سيزار آيرا، تتوزّع بين المكسيك وبرلين ونيويورك وبكين وباريس، حيث تُرجِمت العديد من أعماله، عكس ما هي الحال في اللغة العربية حيث صدرت ترجمة وحيدة عن «دار مسكلياني» لروايته «المؤتمر الأدبي» (ترجمة عبد الكريم بدرخان ــ راجع مقال الزميل سومر شحادة). يقول آيرا إنّ الجوائز والترجمات جيدة لكنها لا تضيف له شيئاً، سوى ربما عائدها المالي. فهو يعيش منذ سن الثامنة عشرة من عمله كمترجم، ويكرّر أكثر من مرة بأنّه يستغرب وجود قرّاء لأعماله من بقية بلدان العالم، فهو دائماً كان يكتب لنفسه ولحلقة صغيرة من الأصدقاء/ القرّاء، لكنه يعوّل على سوء الفهم العابر للغات والأفكار حتى يفهمه قرّاؤه الأجانب...
في أميركا مثلاً حيث بدأ آيرا يشتهر في السنوات الأخيرة، تُحاول دور النشر والصحافة الترويج له بربط اسمه بظاهرة أدبية لاتينية اشتهرت في أميركا منذ سنوات وهي: روبرتو بولانيو (1953-2003). يحرص الناشر الأميركي لآيرا (نيو دايركشنز) على كتابة نفس الجملة المنسوبة لبولانيو على أغلفة كُتب آيرا: «سيزار آيرا واحد من أهم ثلاثة أو أربعة كتاب في اللغة الإسبانية اليوم... ما أن تبدأ في قراءته، لن تستطيع التوقف». كالعادة، لا يهتم آيرا للأمر، ولا للطريقة التي يتم تقديم ترجماته بها، ولا لتغيير العناوين. يُثني دائماً على مترجمه كريس أندروز ويقول إنه يترك له الحرية الكاملة في الترجمة واختيار العناوين. الترجمات الأميركية هي التي تقود بقية الترجمات من حيث خيارات الكُتب. وطبعاً، هو لا يهتم لاسم بولانيو على أغلفته. وحتى عندما سُئِل في أول زيارة له لأميركا عن علاقته بكتابة بولانيو، قال ببساطة: «لا أحب كتابته، قرأته بصعوبة ولم أستطع أن أكمِل». هذا هو آيرا، دائماً في مكان آخر، يعرف جيداً أنّ مُتعته تسكن بين الورقة وريشة القلم، وأن كل ما يلي ذلك فائدة للرجل الستيني الذي صار يعيش من عائد كتابته، «جئت من زمنٍ كان ينظر فيه الناس بعين الريبة للنجاح... يقولون إني كاتب طليعي، أفُنغارد! هذا غير صحيح، الأفنغارد تعبير عسكري، ولكي تكون جزءاً من هذه الطليعة، عليك أن تمتلك نزعة للتدمير بينما أنا أحاول كل صباح بناء أشياء جديدة».