يأتي كتاب الباحث والمؤرّخ البارز وليد الخالدي «القدس مفتاح السلام» (مؤسسة الدراسات الفلسطينية) ليضيء على الاهتمام الذي تحظى به المدينة المقدّسة لا في الوجدان الفلسطيني فحسب، بل أيضاً في ذلك العربي والإسلامي. تعتبر فلسطين آخر البلاد المحتلة من قبل نظامٍ «أجنبي»؛ يحاول تسويق نفسه على أنّه «صاحب أرض» لا «احتلال». من جهةٍ أخرى، هو يسعى إلى تسويق فكرة السلام التي تعتبر بأنَّ كل الأحداث الحالية هي «أمرٌ واقع». لذلك، ينبغي للأضعف أن يمتثل للأمر الواقع من دون مقاومة. من هنا، يطرح عنوان كتاب الخالدي إشكالية كبرى: ما معنى أن نقول «بأن القدس هي مفتاح السلام»؟ وعن أي سلامٍ نتحدث؟ هل هو السلام بحسب ما طرحه ولي العهد السعودي الأمير-آنذاك- عبدالله بن عبدالعزيز عام 2002 ضمن مبادرة السلام العربية؟ أم أنه المرتبط باتفاقيتي غزّة وأريحا (أو أوسلو) الموقعتين بين السلطة الفلسطينية ومثيلتها الصهيونية؟ أم بتلك الأردنية ضمن «إعلان عمّان» (2017)؟ أم أنه بالرؤية والطعم الصهيوني: السلام مقابل السلام، لا أكثر ولا أقل؟

لذلك، بعيداً عن قيمة الكتاب التأريخية والحدثية، فإنَّ العنوان بحدّ ذاته يترك سؤالاً دونما إجابة، مع أنَّ مقدمة الكتاب (كتبها محمود سويد المستشار العام لـ «مؤسسة الدراسات الفلسطينية») تشير بوضوح إلى أنَّ المؤسسة استعانت بالكاتب «لوضع قضية القدس وعروبتها في سياقها الحقيقي بعدما أمعن القادة الإسرائيليون وألحّوا في تلقين العالم أن القدس الموحدة عاصمة إسرائيل الأبدية». إذاً لماذا أتى العنوان بهذه الطريقة؟ لا أحد يعلم.
يتكوّن الكتاب من مجموعة من الأبحاث والدراسات والخطابات أبرزها الخطاب الافتتاحي للكتاب الذي كتبه الباحث عام 1967 «عندما كان مستشاراً للوفد العراقي برئاسة وزير الخارجية العراقي عدنان الباجه جي إلى الدورة الاستثنائية الطارئة للجمعية العام للأمم المتحدة (14/7/1967 أي قبيل حرب حزيران 67)، وقد طلب الوزير العراقي من الخالدي أن يلقي شخصياً خطاباً يرد فيه على ممثل الكيان العبري ووزير خارجيتها آبا إيبان ويفند إدعاءاته بصهيونية القدس في الجمعية العامة». المشكلة مرةً أخرى في هذا الخطاب أنه يشير (ربما كان من المناسب في ذلك الوقت) إلى حق الأردن كدولة ومملكة بشطرٍ من المدينة المقدّسة وبسيطرتها عليه، وبأنه لا حق للكيان العبري احتلالاً بأي طرفٍ من المدينة.

يناقش طروحات سياسية/ عسكرية صهيونية
لكن كأي «نشاط بحثي» أكاديمي بحت بعيداً عن أي جانب «مقاوم»، فإنه يتناول حججاً وبراهين لا يمكن للإسرائيليين التفاهم معه ضمن منطق «القوّة» التي تتبعه هذه الدولة. إذاً نحن أمام خطابٍ كتب في 67 يحاول قدر الإمكان المحاكاة بالحجّة أمام «احتلال» جاء بالقوة أمام دولٍ (أميركا وبريطانيا وفرنسا) معروفة بموقفها الواضح من الكيان العبري. قد يبدو النقاش ضرورياً في مكانٍ ما، لكنه يمتاز بنفسٍ أكاديمي/بحثي أكثر منه نفس صاحبِ حق.
بعد ذلك، يدخل الكتاب إلى مقالات ودراسات كتبها الباحث ونشرها في غير مكان، فيتحدّث عن القدس وعلاقتها بالعرب والمسلمين والغرب، ويتناول في دراسةٍ متخصصة امتلاك المدينة المقدّسة الكثير من الميزات تجعلها متفردةً عن سائر قضايا الصراع الصهيوني-العربي. لا يكتفي الكتاب بذلك، بل يذهب إلى مناقشات لطروحات سياسية/عسكرية صهيونية فيرد عليها، كما في ردّه على طرح رئيس وزراء العدو الأسبق إيهودا باراك والرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون في آب (أغسطس) 2000. وفي لفتةٍ مهمة، يتناول أمرين: تاريخ القدس مذ «العهدة العمرية» (أي فتح المسلمين لها على أيام الخليفة الراشد عمر بن الخطاب) وصولاً إلى اتفاقية كامب ديفيد الثانية (عام 2000، وهي تختلف عن كامب ديفيد الأولى مع الرئيس المصري أنور السادات). أما الثاني، فهو المحاولات الأميركية/الصهيونية الدؤوبة لنقل سفارة الولايات المتحدة من عاصمة الاحتلال تل أبيب إلى المدينة المقدسة، مشيراً إلى الخلل القانوني والتاريخي في هذه الخطوة. فالمدينة هي «وقف إسلامي» وبالتالي هي «مصادرة» بشكلٍ أو بآخر. ويختتم الكتاب بمجموعة من قرارات الأمم المتحدة الخاصة بالقدس بدءاً من عام ما قبل النكبة (1947) وصولاً إلى العام الفائت (2016).
باختصار، الخالدي واحدٌ من أهم المؤرخين العرب وربما الأهم في مجاله البحثي؛ فضلاً عن أنَّ هذه المحاضرات/ المقالات الواردة في كتابه يمكن استعمالها كمصادر بحثية، فهي مؤرخة ومؤرشفة ومضبوطة بدقة بالغة، فضلاً عن ضم الكتاب لقرارات الأمم المتحدة المتعلّقة بالشأن عينه. يمكن بالتأكيد نقاش الكثير من الأفكار التي يطرحها الكاتب، لكن لا يمكن أبداً التشكيك بنواياه. في الإطار عينه، تحتاج المكتبة العربية إلى هذا النوع من الأبحاث/ الكتب، إذ ينقصها الكثير من أبحاثٍ يجريها باحثون عرب بعيداً عن المستشرقين أو الباحثين الأجانب الذين لا يعرفون أثناء دراساتهم - حتى الأكاديمية والملتزمة بأدق الضوابط - أن يتعاملوا مع البيئة التي يكتبون عنها بحد ذاتها.