بداية يصعب تصديق أن صنع الله ابراهيم بلغ الثمانين، فهناك من يبقى في ذاكرة الواحد شاباً مشاغباً ساخراً ممتلئاً حيوية وشقاوة، لا ينال منه الزمن ولم يجبره على الانحناء، لا معنوياً أو حتى بفعل ثقل السنين. بداية أيضاً، أنا منحاز بشدة لصنع الله. وعلى الرغم من أن الظروف لم تتح لي أن أقترب منه كثيراً، ولسنا أصدقاء في الحقيقة، إلا أنني أكنّ له محبة خاصة، ليس فقط بوصفه كاتباً، بل وعلى المستوى الإنساني أيضاً، بسبب اختياراته ومواقفه المستقيمة الحادة على الدوام وفي كل الظروف، حتى لو اختلفت معه.
مثلاً يمكن القول باطمئنان شديد إن روايته «تلك الرائحة» التي كتبها قبل ما يزيد على نصف القرن، تعد نقلة كيفية للرواية العربية من دون أي مبالغة. هي إنجاز الباهر لجيل الستينيات، حيث أسقطت الرواية السائدة من عليائها، وقدمت بلاغة مغايرة وجرأة غير مسبوقة، سواء على مستوى اللغة الحادة العارية الخالية من المجاز، أو على مستوى البناء الذي يشبه لطمة واحدة قاسية عمودية. وإذا كان جيل الستينيات الذي ينتمي له صنع الله، قدّم في بداياته الباكرة إنجازاً ضخماً تمثل في القصة القصيرة، فإنّ هناك كاتبين فقط بدآ بالرواية: صنع الله في «تلك الرائحة»، ثم تلاه تاريخياً عبد الحكيم قاسم في «أيام الإنسان السبعة». وليست صدفة أن قصص صنع الله القصيرة قليلة جداً وعادية أيضاً، فمأثرته الكبرى هي الرواية التي ظل يكتبها أكثر من نصف قرن، بدأب وانكباب وبلا توقف.

«تلك الرائحة» تعدّ نقلة كيفية للرواية العربية من دون أيّ مبالغة

كتب صنع الله نصاً واحداً، على مدى أحد عشر عملاً. وأكاد أقول رواية واحدة (أظن أنها جميعاً مكتوبة بضمير المتكلم). وعلى الرغم من ذلك، فإن هذا النص بالغ التنوع والحيوية، حقق فرادته بنفي الرواية السائدة والتخلص منها والسباحة ضدها. لا يكمن اختصار إنجاز صنع الله في العالم الذي اقتحمه، عالم المثقف الثوري الخارج من السجن لتوه، أو عالم الحرب الأهلية اللبنانية، أو ما جرى في ثورة ظفار المغدورة، أو العين المفتوحة المحدقة في أميركا، أو ما يجري لمسجون جنائي، أو تلك اللجنة الغامضة القادرة على تلطيخ الناس وقهرهم وإجبارهم. لا يكمن إنجازه في تقديم العالم المترامي الذي أشرت إليه الآن، عبر نص واحد طويل ممتد، عبر جدارية لعصرنا وأيامنا خلال نصف القرن الفائت.
لا أتحدث هنا عن القيمة الفنية، فأنا شخصياً لست معجباً بكل أعماله، وأرى مثلاً أن رواية «شرف» طالت أكثر مما ينبغي، ولا أميل كثيراً لرواية «العمامة والقبعة» أو رواية «الجليد». لكن صنع الله إضافة كبرى بكل أعماله على الرغم من أنه لم يكتب سوى أحد عشر عملاً روائياً، من دون أن أضيف سيرته الذاتية «يوميات الواحات»، أو الكتب الثلاثة التي ترجمها، أو روايات الفتيان التعليمية. وفي الوقت نفسه، يكاد صنع الله ينفرد باختياراته التي دفع ثمنها بهدوء ومن دون ضجيج. لا أقصد السنوات الخمس التي أمضاها في سجن الواحات، فكثيرون من كتاب ومثقفي اليسار المصري دفعوا الثمن نفسه، لكن صنع الله أضاف إلى ذلك قراره واختياره بالتفرغ للكتابة وحدها، من دون أن يغادر شقته في الدور السادس في ضاحية مصر الجديدة. لم يلتحق بأي عمل لدى الدولة ولم يتاجر بذلك، وتجاهل كل المغانم المطروحة والجوائز وشهوة التواجد والمناصب.
وعندما كان الوزير فاروق حسني يتباهى ويتطاوس بأنه أدخل كل المثقفين في مصر «حظيرة الدولة» بتعبير حسني نفسه، قبل الثورة، وفي ذروة سطوة حكم حسني مبارك وفي عز جبروت نظامه القمعي، وقف صنع الله بكل هدوء بلا أي استعراض وعلناً على رؤوس الأشهاد، وفي المؤتمر نفسه المقرر أن يتسلم فيه جائزة مالية ضخمة ومعنوية أضخم، ليعلن رفضه لجائزة الرواية العربية لأن الدولة التي تمنحها أهانت شعبها وأذلته وأفقرته وداست على كرامته.
أجزم أن موقف صنع الله هو موقف شخصي تماماً ويتسق مع مجمل اختياراته التي دفع ثمنها بكل تواضع حقيقي.
عزيزي صنع الله: كل سنة وانت طيب من أجل كل ما فعلته.
عزيزي صنع الله: كل الاحترام والمحبة لك.
* روائي مصري