يوجد الكاتب المغربي محمد بنميلود على الحافة دائماً، في استعداد دائم لأن يرتمي في سعير اللغة. يمثّل ذلك الصوت الذي لا يريد أن يكون صدى لأصوات أخرى. هو غير منبهر على الإطلاق بالظلال العالية في أرض الأدب، بقدر ما هو مشدود إلى الأثر الذي تتركه نصوص حارة وصادقة أخرجتها إلى حيز الوجود كائنات هشة قد لا تكون لها بالضرورة تلك السطوة التي يملكها الآخرون.
حوّل محمد بنميلود صفحته على الفايسبوك إلى دار نشر وجريدة وناطق رسمي بأفكاره ومواقفه. ينثر هناك بشكل مستمر ما يعتمل في ذاته من مشاعر وتصورات، فضلاً عن نصوصه الشعرية الجديدة التي يحبّ أن يكون أول ظهور لها على الفضاء الأزرق بدلاً من الجرائد والمجلات. تحظى صفحته بمتابعة قدر كبير ممن يرون فيه أحد الخوارج الكبار في الثقافة المغربية الراهنة.
لا نحبّ أن ننعت صاحب «الحي الخطير» بـ «شاعر الفايسبوك» أو «الظاهرة»، ففي ذلك تحجيم له في نهاية المطاف. فهو من القلائل الذين يكتبون نصوصاً عارية، متخلصة ما أمكن من زيّ الرقابة الاجتماعية والذاتية. في نصوصه الشعرية والسردية على السواء، نحسّ أنه يكتب الأدب غاضاً الطرف عن كل المؤثرات التي توجد خارج الأدب. يرى فيه كثيرون صوت التمرد والاحتجاج والهروب من كل ما يجعل الكاتب راضخاً للاعتبارات الرسمية والمؤسساتية في البلاد.


الرباط | عرفك القراء والمتتبعون شاعراً، وربما كانوا ينتظرون أن تفتتح تجربة نشر الكتب بعمل شعري، لكنك فاجأت الجميع بعمل روائي محكم حظي بالتقدير والإشادة. نقصد طبعاً روايتك «الحي الخطير» الصادرة عن «دار الساقي» (2016). ما مبررات اختيار هذا الشكل الأدبي؟
لا أومن بنشر الكتب من أجل نشرها فقط. إن لم تتوافر الشروط التي أطمح إليها لنشر كتاب والتي تحترمني وتحترم حريتي في الكتابة وكرامتي كإنسان وككاتب فلن أنشره، لأني لا أجد داخلي دافعاً مقنعاً لنشره. أفضل النشر في الفايسبوك على ذلك، فهو بالنسبة لي أهم بكثير من عدد كبير من دور النشر ومن منشورات وزارات ميتة، كما أنه يوافق مزاجي. غير أن الظروف ذهبت لصالحي بخصوص كتابي الأول، الذي لم يأت عملاً شعرياً، بل رواية فازت بمنحة مهمة من «الصندوق العربي للثقافة والفنون ـ آفاق» وطُبعت في دار مهمة على المستوى العربي هي «دار الساقي». هذا طبعاً قدم لي ككاتب ينشر أول كتاب دعماً كبيراً وتقديراً لم أجده قبل ذلك في مكان آخر. لو أني وجدت ظروفاً لنشر عمل شعري تحترم الشعر، لما ترددت، وبما أنها غير متوافرة، فأنا أنشر أشعاري في الفايسبوك، وتصل إلى أصدقائي في رمشة عين، و«مريضنا ما عندو باس» كما يقول المثل المغربي.

■ ماذا تشكل لك الكتابة اليوم؟ ما الذي يجعلك تختار الأدب؟ هذا إذا كان الأمر يتعلق باختيار ما.

- وجدت نفسي متورطاً في الكتابة بالتدريج. ربما هناك أسباب ودوافع كثيرة تجعل من شخص ما كاتباً مع الوقت (أخص بكلامي الكتابة الأدبية)، بعضها سيكولوجي ربما. أعتقد أن الكتّاب لا يولدون كتاباً، لكنهم يولدون وفي داخلهم استعداد ما ربما، شبيه باستعداد الرسام للرسم عبر قدرته المبكرة جداً على رسم خطوط متناسقة ووجوه يعجز المحيطون به عن رسمها. شبيه أيضاً بامتلاك شخص حنجرة تصدر منذ صباه صوتاً شجياً يؤهله لأن يصير مطرباً. الكتّاب أيضاً يولدون بأشياء مشابهة ربما، لها علاقة بما يؤهّلهم أن يصيروا كتاباً في المستقبل.

لا أؤمن أنه باستطاعة
الكاتب تغيير الواقع،
فهذه التصورات انتهت
باكراً مع الرومانسيين

أظن أيضاً ـ ربما- أن الكتّاب صنف معين من البشر (الشعراء خصوصاً)، يشتركون في أشياء كثيرة فيما بينهم. تلك الأشياء التي يمكن اعتبارها دوافع مبكرة تأتي نتائجهاً أيضاً متشابهة على نحو ما في المستقبل. أجيب على سؤالك إلى حد الآن بـ «ربما». فأنا غير متأكد بشكل قاطع من هذه الأشياء، التي تحتاج أبحاثاً ودراسات طويلة (وليست مجرد تخمينات) تجيبنا عن الدوافع التي تجعل من شخص كاتباً، ولماذا هذا الشخص دون آخر، وهل الأمر مرتبط بـ «موهبة» ما، سابقة فعلاً، بمعنى أنّ فعل الكتابة يصير حتمياً بالنسبة لذلك الشخص، أم أن الأمر خال في المطلق من أي موهبة أو استعداد مسبق وأنه مجرد صدف محض تصنعها ظروف لاحقة معينة. ما أنا متأكد منه، هو العمل، والعمل المستمر، سواء حسمنا في مسألة الدوافع أم لم نحسم، قد تكتب كما يكتب آلاف الناس، لكنك لن تتميز، ولن تذهب بعيداً، ولن تنجح تطورياً (بالمعنى الدارويني للتطور) بموهبة أو دون موهبة، دون عمل شاق ومتواصل، وتداريب يومية مكثفة على الكتابة والقراءة، ثم الكتابة من جديد، والقراءة من جديد، والتأمل في حياتك وأعماقك وذاكرتك وتجاربك وفي العالم الخارجي وفي التاريخ والجغرافيا والفضاء وفي كل شيء... دون توقف. الطبيب كي يصير طبيباً، لا بد له من الدراسة بعد الباكالوريا سبع سنوات على الأقل. الكاتب أيضاً، لا بد له من عشر سنوات على الأقل من الكتابة المتواصلة والقراءة المتواصلة، من السقوط والنهوض، من المحاولات الكثيرة الفاشلة، ربما عشرين سنة، ربما ثلاثين، إلى أن «يجيب الله التيسير» كما نقول في لهجتنا المغربية. وربما لن يأتي التيسير أبداً، بمعنى أن الكاتب قد يتخلى أخيراً طواعية عن النص الذي تدرب طويلاً من أجل كتابته ذات يوم متنكراً لكل ما كتب. فالأمر بالنسبة لكاتب واع بمعنى الكتابة – في نظري- يظل دائماً نسبياً يفتقد إلى القطع والإطلاق والنجاح وغير مرتبط بتاتاً بالكم. بعد عمر كامل من العمل، القراءة، والكتابة، يظل يشك في مؤهلاته، ويظل يشعر باستمرار أنه بدأ تواً، ويظل يواجه باستمرار ورقة فارغة عصية على أي ضبط أو خطط مسبقة أو تكرار كما لو لأول مرة. يظل يشك في كل شيء يكتبه بقلق متواصل، ولا يرضى عن عمله، وهكذا يجب أن يكون الكاتب في نظري، بينما تبقى للناس وللتاريخ مهمة تقييم أثره، ذلك التقييم الذي لا شك أنه يظل هو نفسه نسبياً. ذلك الأثر الذي في مجمله، بمحاسنه ومساوئه هو حصاد الكاتب وليس ما يطمح إليه. بالنسبة لسؤالك: ماذا تشكل لك الكتابة اليوم؟ أعتقد أن الكتابة هي الكتابة نفسها اليوم وغداً وأمس، إنها جوهر واحد، غير خاضع للزمن اليومي المعيش وللتغيرات والتحولات الشكلية المتلاحقة على السطح بقدر ما هو خاضع لزمنه الخاص وتراكمه الخاص ووجوده الخاص المستقل والمستمر منذ بداية التاريخ. ولا يختلف سوى في تفاعله مع حاضره، مع واقعه، مع مستجدات عصره، من دون أن يفقده هذا التفاعل جذوره الغائصة في تاريخ الأدب والفن واللغة والوعي أكثر من غوصها في أي بيئة تختلف عن طبيعتها.

■ هل أنت مطمئن لحاضر الكتابة ومستقبلها في العالم العربي عموماً وفي بلدك على الأخص؟
الكتابة في نظري خاضعة لقانون تطوّري صارم، بالتالي تقاوم لتبقى، وما دامت هناك سطور تكتب، وكتب تطبع، وقراء يقرأون، فهذا الجنس ما زال قادراً على البقاء على ما يبدو. العالم العربي مثله مثل باقي جغرافيات العالم خاضع لنفس المبدأ. الكتاب العرب يقاومون من أجل أن يظلوا كتاباً وسط كل هذه التحولات والتغيرات التي ربما جعلت العلاقة بالكِتاب أقل حميمية وأقل شعبية مما كانت عليه في الماضي، ووسط هذه الظروف السياسية والثقافية والاقتصادية التي تعيشها اليوم أغلب هذه البلدان التي تدوس بذور الإبداع عوض أن تسقيها. لكن الكتاب يتكيفون أيضاً مع هذه التحولات والظروف، فقد أصبحوا يعرضون منتجاتهم على الانترنت، ويقتربون أكثر من الناس، نازلين من أبراجهم وإن على مضض، معترضين بذلك سبيل القراء، إذ لا يمكن لكاتب أن يوجد في نظري دون قارئ إلا في أورغازماته الخاصة. هناك مبدعون عرب ومغاربة رائعون، سواء في الماضي أو في الحاضر أو غداً. بطن الأدب ولّادة (إذا جاز لنا استخدام هذا التعبير) في كل الظروف والأزمنة والقارات، ومشروع الكتابة يظل دائماً مشروعاً فردياً خاصاً بالكاتب وحده، قابلاً للتحقق في كل الظروف. ربما ديموقراطية النشر على الانترنت وسهولته بكل ما لها من سلبيات وبكل ما يؤاخذ عليها، لها أيضاً إيجابيات إبراز أصوات شابة أو حتى غير شابة جيدة جداً لم تتأت لها فرصة الظهور والوصول إلى القراء قبل الانترنت لأسباب نعرفها جميعاً. وربما ما كانت لتتأتى لها الفرصة أبداً لولا الانترنت بكل ما له وما عليه. هذه الظروف السيئة أيضاً والضاغطة على نفسيات الكتاب سلباً التي تعيشها مجتمعاتنا اليوم تفعل – أيضاً - إيجاباً بشكل معكوس في إبراز أقلام جيدة جديدة أنجبتها الأزمات والحروب والشتات والاضطهاد والإحباط عوض أن ينجبها الخصب ورغد العيش. الكاتب العربي أو المغربي إنسان كامل الإنسانية كباقي الناس في كل مكان من العالم، باستطاعته الخلق والإبداع دائماً. علينا الإيمان به دون عقدة نقص تجاه الغرب أو سواه، وتقييم إنتاجه وفق ظروفه ووفق مستوى الثقافة والبيئة التي أنتجته والتي تعيقه وتحاربه أكثر مما تدعمه.

■ ثمة روح من التمرد نلمسها في نصوصك الأدبية. إلامَ مردها؟
أعتقد أن التمرد هو أحد المحركات الكبرى الأساسية للإبداع، خصوصاً داخل مجتمعات محافظة منفصمة تحاول تطويع الفرد وفقاً لقالب واحد جاهز يطبع البشر بماكينة حديدية صدئة متطابقين كي تمارَس عليهم السلطة السياسية والاستبداد بسهولة. التمرد تنقيب وجودي عن الحرية. لم نتحرر بعد لنكتب بحرية وراحة ونركز على جماليات الكتابة والكتابة من أجل الكتابة فقط والكتابة للزينة ممسكين بالسيكار وواضعين على رؤوسنا بيريات. إننا نخوض معركة جمالية شرسة، ومميتة لنا، ضد الرقابة والسلطة وضد منطق الحلال والحرام في الفن وضد الأنا الأعلى لهذه الثقافة. معركة وجود، وبما أننا لا نملك سوى كلمات عزلاء، فإننا نستخدمها أسلحةَ مقاومةٍ وممانعةٍ ودفاعٍ عن النفس. هذا يعيق عمل الكاتب في نظري الذي قد يبدع أفضل حين يطارد جماليات تجريبية (كبعض الكتاب الذين يستطيعون الانعزال بقوة مريبة عن كل هذا الواقع) أو حين يتأمل الأزهار ويصف لنا نهراً صافياً مثلاً عوض أن يحارب. لكن، كيف ستستطيع تأمل عصفور وسط لعلعة رصاص أو أثناء سقوط صاروخ فوق قريتك أو أثناء شعورك باستبداد الجماعة على الفرد داخلك مثلاً؟
في النهاية أنا أنتمي إلى هذه الأرض، هذه الأرض التي أحبها، وإلى هذه الثقافة، وإلى الناس الذين أنجبوني، وعلموني، إلى أجدادي، إلى جيراني الذين أحبهم وأصدقائي وحكايات العجائز والناس البسطاء المغمورين ورائحة النهر وإلى مدينتي. لا يمكنني أن أنفصل عن هذه البيئة ولا أريد أن أنفصل عنها بقدر ما أنتقد بنيتها بحدة وأتصادم معها في علاقة إشكالية للغاية وحميمة أيضاً. كما لا أريد أن أهرب، ولن أستطيع ذلك لأن كل هذا قد أصبح داخلي مشكلاً كياني وهويتي أينما ذهبت. بالتالي أواجه وأتمرد عبر عملي ككاتب محاولاً تذويب كل ذلك في قالب جمالي وفني ما استطعت، شعراً أحياناً، وسرداً أحياناً. إنني أكتب الآن تقريباً فقط كي أدافع عن نفسي وليس كي أبدع، فالدفاع عن النفس وعن الوجود لا شك يسبق الإبداع، إن لم يكن إبداعاً في حد ذاته.

■ هل يشكل الكاتب امتداداً للواقع أم عنصراً مواجهاً له؟ وهل بمقدور الأدب أن يترك أثراً في هذا الواقع؟
- لا شك أنها علاقة معقدة، وجدلية للغاية، فالكاتب امتداد للواقع، للحاضر وللماضي، لا يمكنه أبداً أن يأتي من فراغ أو من الفضاء الخارجي، لكنه مواجه أيضاً في نفس الوقت لهذا الواقع الذي ينتجه، مقاوم لسطوته. الواقع بالضرورة سلطة خارجية، وداخلية أيضاً، تفرض حتميتها على الكائن، أحياناً لصالحه وأحياناً ضده. إنها سلطة بناء، وفي الوقت عينه سلطة تدمير وفناء أعمى، والكاتب محكوم بشروطها دون أن يصح العكس، سوى في قدرته على مراوغتها. لا أؤمن أنه باستطاعة الكاتب تغيير الواقع أو تغيير العالم، فهذه التصورات انتهت باكراً مع الرومانسيين بنهايتهم ونهاية مذهبهم عوض تغيّر الواقع أو انتهائه. لكني أومن بالمقاومة حتى النهاية، «بواقعية» شديدة، بروح قتالية جمالية، بالفعل في الواقع.

الناقد الذي يكتب عن معرفة غير حابس نفسه في إطارات نظرية تقليدية، يبدع نصاً موازياً لإبداع النص الذي يكتب عنه


الأدب لا يغير الواقع، لكنه يترك أثراً فيه، يستطيع أيضاً أن يغير الناس، أن يضيء العتمات، أن يساعد على التحرر، أن يزرع وروداً في حديقة عميانٍ، إن لم يستطيعوا رؤيتها سيستطيعون شمها على الأقل. أعتقد أن هذا مهم للغاية وكثير وضروري لوجودنا. العالم سيئ ربما، لكنه سيكون أسوأ من دون أدب، دون موسيقى، دون فن، دون أمل مستمر في واقع أجمل.

■ هل تؤمن بأن الكاتب يحمل بالفعل رسائل وينبغي له توزيعها؟ كيف تنظر لوظيفة الأدب؟
رسالة الكاتب الأهم هي أن يكتب جيداً. حين يكتب جيداً، يكون قد وزع كل الرسائل الممكنة. مثل الزهرة، يكفي أن تتفتح حتى ينتشر العبير، وحتى تحفزنا على الحب وعلى السلام. إنها تتفتح بجمال وفتنة فقط، دون أن تنطق بأي كلمة أو شعار، ورغم ذلك تصل الرسائل. دون أن ننسى أن الأفعى التي تحمل السم وترمز إلى الموت والشر هي فن خالص أيضاً في تصميمها وألوانها وتفوقها، وهي رسالة أيضاً. لكن في اعتقادي إن الفن في مجمله رسالة واحدة (مهما حاول الكتاب التملص من الرسائل والتنكر لها)، بكل أشكاله الخيرة والشريرة، هو دعوة معتّقة وغير مباشرة للحب والسلام والخير ومقاومة للشر. تختلف فقط طريقة صياغة هذه الرسالة، التي أعتقد أن أفضل طريقة لصياغتها هي أن لا تكون هناك أي رسالة. إذ إن الحرية هي أكبر ما يمكننا تبليغه، وهذه الحرية رغم أنها رسالة، إلا أنها مضادة للرسائل. الكاتب (والفنان بصفة عامة) ليس ساعي بريد. إنه أمام عمل أنطولوجي تجريبي خطير وغير مضمون النتائج بالضرورة، بل صادم ومخيب للآمال، أحياناً مادته الخام هي جسده وروحه وبحثه المحموم عن الحقيقة والحرية، وتجريبه للعالم كالأوشام البدائية في جلده وذاته سعياً وراء معرفة ملحّة بشدة تتجاوز الظاهر والقطعي إلى المجهول.
■ هل أنت معني بالمدارس الأدبية وبتصنيفات النقاد؟
أنتمي إلى مدرسة حيّي العشوائي، ومدرسة طفولتي، ومدرسة الشارع، ومدرسة حياتي وذاكرتي وتأملاتي فيما أعيشه وما أقرأه وما أتخيله، وهذه كلها ضد أي مدرسة أو تصنيف. بالنسبة إلى النقاد، لا يمكننا إجمالهم في خانة واحدة. فالناقد الذي يكتب عن معرفة وبعقل منفتح وبإبداع غير حابس نفسه في إطارات نظرية تقليدية، يبدع نصاً موازياً لإبداع النص الذي يكتب عنه، ليس هو الناقد المتكلس المتخشب الأحفوري الذي تهمه النظريات والمستحاثات والقوالب الجاهزة والنحو. أكثر مما يهمه الفن باندفاعته الفلسفية القوية وجموحه المدمر وجمالياته المبتكرة وخروجه عن الإطارات. وللأسف عندنا فائض من هذا الصنف الأخير. أعتقد أنه على الكاتب احترام عمل الناقد الجيد وإسهاماته الهامة في إضاءات الأعمال الأدبية، وعلى الناقد في المقابل عدم محاولة ممارسة أي نوع من السلطة أو الأستاذية على النصوص، بل أن يضع في ذهنه دائماً بتواضع الكبار احتمال أن تكون تلك النصوص التي أمامه نصوصاً أكبر مما يراه.

■ هل من الضروري للكاتب أن يطلع على المرجعيات النظرية للجنس الأدبي قبل أن يكتبه أم أنك ترى أن المعرفة النظرية ليست شرطاً للكتابة؟
لا يمكن أبداً أن نفتي بالجهل، بل بالمعرفة وبالتعلم فقط. بالتالي ضروري جداً الاطلاع على كل المرجعيات النظرية والتيارات والمدارس الأدبية والأشكال الكتابية ما أمكن والإفادة منها. وإلا كيف سيمكن تجاوزها أو الإضافة إليها؟ ما لا يتأتى سوى بالمعرفة لا يمكنه أن يتأتى بالجهل. إن كنت لا تعرف شيئاً عن السريالية مثلاً، فقد تعتقد أنك تخترع السريالية لأول مرة في سنة 2017، وهذا لن يبدو مضحكاً أبداً، فالسرياليون أنفسهم أعلنوا نهاية السريالية كحركة منظمة منذ سنة 1969 بعد ثلاث سنوات فقط على موت أندريه بروتون. حين لا نعرف أي شيء عن تاريخ صناعة السيارات مثلاً وإلى أين وصلت هذه الصناعة اليوم، قد نفكر من جديد بعبقرية لا أحد يحتاجها في اختراع العجلة.
بل ما أريد أن أقوله في ما أكتبه أحياناً وقد يلتبس على البعض، هو أن الاطلاع على المرجعيات النظرية ليس هو ما يصنع كاتباً جيداً، إنه ضروري لكنه غير كاف أبداً، وهو مجرد جزء صغير وأبجدي من عمله المعقد. جزء عليه محوه والتطهر من آثاره قبل البدء في الكتابة. فالأدب ليس استظهار الدرس المدرسي من دون أخطاء، أو إعادة تكرير بترول معلومات قديمة بهدف الاستعراض، بل هو دون شك أكثر تعقيداً وتركيباً وزئبقية وسحرية من ذلك.