أرى أمامي أراضي شاسعة يغطيها رمل كثير وجبال مكللة بالثلج. رمل وثلج. لا يرى أحد أحلاماً مثل هذا. غير أنني حلمت دوماً بمكان يملأه الغبار والرمل، وأسواق تصفر فيها الرياح، كالرياح التي تكنس شواطئنا، وفي البعيد ثمة ثلج يغطي قمم الجبال، وعباءات ولحى كثيرة، وأثواب تبتلعك وتجعلك تختفي، مع أنني أجدها جميلة. جميل أن ترتدي هذه الأثواب حين لا تريدين أن يراك الآخرون وألا تكوني أكثر من كومة قماش. أحياناً كانت تنتابني الرغبة في أن أرتدي مثل هذه الأثواب حين كنت أشعر بأن الأنظار كلها مصوبة إلى وجهي. فإن رغبت، أبتسم ابتسامة عريضة كما لو أنني كنت نسيته تماماً، وإن امتلأت عيناي بالدموع، يطلبون مني أن أتجلد لأن البكاء لا ينفع وأنني لن أستعيده على أي حال. إذا تصرفت بطريقة خشنة، يصدرون الحكم فوراً: لقد جنت من أثر الحزن. في هذه الحالات، ما كان لي إلا أن أرغب في أن أغطي نفسي بواحدة من هذه العباءات الزرقاء، بالبرقع.تغمض ماريا عينيها وتحاول أن تتخيل أفغانستان. تحكي عن بعض الصور التي مرت في ذهنها خلال هذه الأيام. هذه أول مرة تفعل ذلك مع رجل غريب. ولكن ربما أنا فقط أعتبر نفسي غريباً، بينما هي رأتني في الكنيسة، وأثناء الدفن، أو أنها تتذكرني من ذلك اليوم الذي جئت فيه إلى هذا المكان لألعب كرة القدم أو من أحد مراكز التدريب التي حاولت أن أتظاهر فيها بأنني ملاكم، وأخذت كل ما كنت أبحث عنه في حقيبة. تحكي لي عن بلد لم تره قط، لكنها تبدو كما لو أنها تعرف كل مشهد رأته في الصحف. كما لو أنها دربت عينيها على أن ترى أدق التفاصيل خلف تقارير المراسلين في كابول أو المقالات المعززة بالصور في المجلات النسائية.
أفغانستان باتت بلداً تردد اسمه كل يوم أكثر من اسم بلدها. يرافقها كل الوقت. اسم غريب، يصعب لفظه، فيظهر في اللهجة المحلية أشياء مثل أفانيستان، أفغرانيستان، أفغا. وفي هذه المنطقة، لا يفكر المرء ببن لادن أو بطالبان، بل قبل كل شيء بأفغان، أجود أنواع الحشيش، الذي يأتي في أكياس ويملأ كاراجات بأكملها وظل لسنوات كلمة السر التي تجذب المزيد وتحشدهم في أماكن مغلقة لكي يتعاطوه.
تبدو ماريا مهووسة إلى حد كبير بأفغانستان. هوس تقرره بنفسها. انشغال ذهني ظل راقداً في أعماقها وشل قدراتها كما لو كان حادث سير. لا أحد من المحيطين بها يعمد إلى التلفظ بأي كلمة من شأنها أن تدنو ولو بشكل بعيد من لفظة أفغانستان. كما لو كان التلفظ بها كفيلاً بأن يوقظ الحزن مرة أخرى أو أن يذكرها، ولو للحظة، بسبب الحزن، بأفغانستان، كما لو أنها قادرة أصلاً أن تنسى. تشعر ماريا بهذا الاهتمام العبثي بها. هذا الأمر أزعجها بمثل ما تنزعج المرأة حين يعمد شخص إلى فتح الباب لها بتكلف صارخ، أو يقدم الاعتذار لاستعماله كلمات لا تناسب النساء. لطف متصنع غايته إظهار رقة الشخص ودماثته أكثر منه الإفصاح عن تعاطف حقيقي مع الشخص الغارق في الحزن.
لا تستطيع ماريا أن تنسى. ليس في مقدورها ألا تفكر بالأمر. لم يمر وقت طويل. وقعت الفاجعة، ومنذ ذلك الوقت لم يمر يوم تمكنت فيه من تجنب التفكير في ما حدث، والتساؤل عن كيفية حدوثه وما إذا كان ممكناً تجنب وقوعه. هنا يدربونك على أن تعتبر كل ما يحدث أمراً لا يمكن تجنبه. ثمة ما هو أبعد من الإيمان القدري الكلاسيكي ما يجعلك تستقبل كل ما يحدث بذراعين مفتوحتين وركبتين منحنيتين. التمرين اليومي على تقبل كل ما يقع، يدفعك إلى تحمل وطأة الأشياء لزمن أطول. إذا واجهتك حادثة، عليك تحملها والسعي إلى الاستفادة منها. وهذا موقف يمنعك من إدراك فحوى الأمر. استيعاب السبب الكامن وراء الحوادث، وإمكانية تجنبها، ومن أين تأتي. أن تعتبر كل يوم يمر أسوأ الأيام، وأن تعرف في نفس الوقت كيف تستفيد من كل يوم. أنها ضرة نافعة يرثى لها، أن تقدر على استغلال نوائب الدهر، استغلال لحظة تتهاوى فيها الأشياء على رأسك. لا أحد من المحيطين بماريا يسأل نفسه كيف حدث ذلك أو لماذا. تحدث الأشياء لأنها يجب أن تحدث. عليك أن تتكيف مع الأحوال وأن تحاول الاستفادة من الوضع الذي تجد نفسك فيه، رغم أنك لم تقرر قط ما ينطوي عليه الحادث وما هي حقوقك، ولماذا يجب أن تكون لك حقوق في هذه الحالة. وهنا بالذات يقترن الحزن بالغضب، إذ تدرك أن ليس ثمة فضائل للحادث. الأسئلة ترهق كاهل ماريا. هي تطرح هذه الأسئلة على الجنود الذين كانوا مع غايتانو في كابول والذين يقضون إجازات قصيرة الآن. تطرح الأسئلة على كل من يعود من هناك ولو لقضاء برهة قصيرة هنا. أولئك الذين عادوا من الحرب الأخيرة. الأسئلة التي تتمكن من زجها بين عبارات المجاملة والإطراء التي يغدقون بها عليها، هي الأرملة، العروس الشابة التي تعثرت ووقعت على الأرض قبل أن تبلغ طاولة عقد الزواج.

حرب لبنان عام 1982 شاركت
فيها الكتيبة الإيطالية إيتالكون


في الريف، ثمة محاربون قدامى من كل الحروب، من كل الحروب الأخيرة التي خيضت. هذه الحروب التي تتم الإشارة إليها ليس كصراعات أو نزاعات بل كعمليات. ولكن في هذه المنطقة يتحدث الجميع، الأقارب والشبان والمخطوبون والإخوة، عن «الحرب الأخيرة». الحرب الأخيرة تدفع الحروب السابقة إلى الخلف. منذ أشهر، كان المقصود بالحرب الأخيرة هو العراق. ولفترة كان المقصود بها حرب البوسنة. الحرب الأخيرة بالنسبة إلى هذه المنطقة تعني الآن حرب أفغانستان. ولكن في المنطقة الممتدة بين كاسافانوريي وفيلاريكا، كان الشباب يرسلون إلى الناصرية (في العراق، المترجم). وبالنسبة إلى القاطنين في وسط البلاد، فإن الحرب الأخيرة تعني لبنان، فإلى هناك كان يتم إرسال الجنود إلى شهور خلت. لا أحد يتحدث عن هؤلاء. هم لا يطلقون النار على أحد. لا يظهرون للملأ، ليس ثمة قنوات تلفزيونية ترسل تقارير من هناك وتمنح الفرصة لهؤلاء لكي يتصلوا بعائلاتهم. ليس ثمة ربات بيوت يظهرن أمام كاميرات التلفزيون ليتحدثن وتظهر بطونهن التي تركها الجنود وراءهم وقد انتفخت، ولهذا فإن الجنود يكشفون عن أحوالهم من خلال فايلات الصور التي يرسلونها بصيغة «جي بي جي» عبر الإيميل أولاً لكي يفرغوا حافظة الكاميرا الرقمية، وثانياً لكي يطمئنوا على عدم ضياع الصور بحيث يصير في مقدور خطيباتهم وعائلاتهم معرفة الأماكن التي يعيشون فيها والطريقة التي يقضون فيها أيامهم.
لا تحب الصحف الصور التي تظهر فيها الحياة اليومية على الجبهة. صور الجنود الذين يقومون بالحراسة، يرفعون أطفالاً صغاراً، يجلسون على مدرعاتهم وهم يرتدون نظارات شمسية ويمدون أرجلهم إلى الأسفل واضعين بنادقهم بالقرب منهم. مشاهد كهذه لا تشد الانتباه أو أنها بكل بساطة عادية جداً بالنسبة إلى حرب ينبغي ألا تظهر بوصفها نمط عيش يومي لأي كان. لا أحد يريد أفلام الفيديو التي تلتقطها إلا إذا كانت تصور جرحى يشتمون العدو، أو جنوداً يخترقون قواعد العدو أو يتعرضون لهجوم من العدو.
حين ينتقل الشباب من هنا إلى مدارس في نابولي أو يتبعون آباءهم وأمهاتهم الذين يضطرون إلى الانتقال من مكان إلى آخر وينتهي بهم الأمر في مدارس في روما أو تورينو، فإنهم لا يعرفون عما تتحدث المعلمة حين تسألهم عن الحرب الأخيرة. حينذاك يفكرون بالحرب التي شارك آباؤهم فيها أو بتلك التي تشترك فيها أخواتهم، وعندئذ يعصرون أدمغتهم كي يعرفوا ما إذا كانت حرباً أخيرة أو لا وما إذا كانت هي التي تقصدها المعلمة من سؤالها. وفي الأخير يجيبون: الحرب الأخيرة كانت في كوسوفو عام 1999، أبي كان هناك، أو الحرب الأخيرة هي تلك التي تجري في أفغانستان. وغالباً ما يضج الصف بالضحك، ويبدأ التلاميذ بالغمز من قناتهم لأن الجواب عن سؤال يتعلق بالحرب الأخيرة هو أسهل ما يمكن. لم تسألك المعلمة عن التحالف الثلاثي أو عن اتفاق السلام بعد الحرب العالمية الأولى، بل هي سألتك فقط عن الحرب الأخيرة، أسهل شيء. ومن يخطئ في الإجابة عن هذا، لا بد أن يكون أحمق.
بالنسبة إلى الشباب في منطقتي، وقعت حروب وحروب بين الحرب الأخيرة التي يعرفون عنها والتي يتعلمون عنها في المدرسة.
آخر حرب يتذكرونها لا تتعلق بالبذات العسكرية للنازيين ولا بالخوذات الفولاذية لمقاتلي حرب التحرير، بل هي حرب لبنان عام 1982، تلك التي شاركت فيها الكتيبة الإيطالية إيتالكون. وهذه لا تشكل معلماً تاريخياً. لقد تحولت إلى ذكريات يتحدث عنها المرء وهو يجلس في الحانة. حكايات ترويها وأنت تلعن البنك الذي يرفض تجديد مدة دفع أقساط قرض الشقة، أو حين تطوي التقويم السنوي الذي يرسله الجيش لك كل عام. أينما كان في إيطاليا، حين ترد كلمة «محارب قديم» أو «حرب أخيرة»، تتدفق في الحال صور عن أبطال حرب الأنصار الذين غزا الشيب شعرهم. أما هنا، فالمنطقة مكتظة بمحاربين قدماء ما زالوا في مقتبل العمر. محاربون قدماء تحدوهم رغبة حارة في أن يذهبوا إلى الحرب من جديد.
محاربون قدماء يعودون من الحرب وينفقون كل ما جمعوه من مال في البارات أو يعمدون مع أحد إخوة السلاح إلى فتح مطعم يشرعون في الإنفاق عليه ببذخ، من المرمر إلى عمال المطبخ، ثم سرعان ما ينتهي بهم الأمر إلى الإفلاس، ثم يختفون عن الأنظار ثانية ذاهبين إلى جبهة أخرى قبل أن يكبروا في السن، وقبل أن ينغمسوا في أعمال تافهة تشغلهم عن العلاقات التي يحتاجون إليها للذهاب إلى الجبهة. في كل مكان في إيطاليا، تكون فرق الحماية مليئة بالمحاربين القدماء. فطالما أنهم كانوا عناصر حراسة قوافل الغذاء لحمايتها من مقاتلي جيش تحرير كوسوفو أو جنود عيديد (الرئيس الصومالي السابق، المترجم)، فإن في وسعهم القيام دائماً بالخدمة لدى مسؤول حكومي أو رئيس عصابة قرر التعاون مع السلطات العليا من دون أن يكون مضطراً إلى رؤية كوابيس في نومه حيث يتحول فيها إلى أشلاء تتطاير في الهواء.

■ ■ ■


كان غايتانو في الرابعة والعشرين. نادراً ما يكون للجنود أعمار دقيقة. غالباً ما يرسمون في هيئة شبان يافعين لئلا ينظر إليهم كقتلة وحشيين. ولكن حين يتبدل الشاب فجأة، من خلال التبدل في سجل القيد المدني، فإن الرابعة والعشرين يغدو عمراً صغيراً لكي يموت فيه المرء حتى ولو تعلق الأمر بجندي متطوع ذهب للقتال في أفغانستان كي يحصل على ما يكفيه من المال من أجل أن يتزوج ويستقر. وحين يصل الحديث إلى العمر، تصل المسافة إلى الحوادث، الواجب، البلاد البعيدة، ثم تدنو منك وتنتهي أمام عينيك. هذه «السبعة عشر عاماً» قيلت بطريقة تلقائية، بنفس الطريقة التي يذكر فيها أغلب الناس أعمارهم. بدت لي مثل قطعة زجاج تخترق جسمك دون أن تراها. من كنتَ تظن أنها تشبه طفلة تكشف طفلة فعلاً. إنها طفلة. طفلة غدت أرملة. كانت تستعد لأن تصير عروساً. سبعة عشر عاماً من العمر. هذا يمنحني الإحساس بأنني أمام شيء قدسي. لوحة قديمة تعرض مأساة.

حقاً أين وقع العدد الأكبر من القتلى، في الناصرية أم في البوسنة وكوسوفو؟



جيلاً بعد جيل، ثمة فتيات ــ طفلات أصبحن أرامل بعد موت جنود ــ أطفال. أرامل يافعات لم يتجرأ أحد على الاقتراب منهن لأن شبح أزواجهن كان يحرسهن طوال الوقت. حالة كهذه ماثلة أمامي الآن. ولكن بالرغم من وجود نماذج تصلح لكل الأوقات والأماكن، وبالرغم من أن في وسع المرء أن يراهن كأشخاص من لحم ودم، إلا ان هذا لا يعني أن الكل سواء وأن ليس ثمة فرق بين الماضي والحاضر.
ماريا نفسها تبين لي ذلك على أكمل وجه. تخرج ثانية وتأخذني إلى البار في ناصية الشارع. إنه مليء بالمحاربين القدامى. صاحب البار نفسه هو أحد المظليين القدماء من فرقة فولغوري. كان قد أدى الخدمة في الصومال. في حوزته حكايات كثيرة عن مشاهداته الحية لمصفحات تسحق مصورين وسلاحف تحت عجلاتها الدائرية. وهو ترك البار في عهدة زوجته قبل أن يذهب. الشخص الذي يقف هناك ملتصقاً بجهاز لعب البوكر هو توماسو، خدم في البوسنة وهو يكره جنود العمليات الأخرى كافة. يبدد ثروته في البار. يخسر كل ما يمكن أن يخسره ويربح بمقدار ما يسمح له الاستمرار في اللعب. تريدني ماريا أن أتكلم معه أو على الأقل أن أحاول التعرف إليه. توماسو هو واحد من المحاربين القدامى الأكثر حنقاً، واحد من هؤلاء الجنود الذين لا يهدأون لحظة حين يعودون إلى البيت.
ـ الآن إنهم أشبه بمن يقضي عطلته هناك. في وقتنا، لم نكن نملك أجهزة التلفزيون التي تعمل بواسطة الأقمار الاصطناعية. كنا نرسل البطاقات البريدية لعائلاتنا. الآن لديهم صالات للتمرين وإنترنت وليسوا في حاجة إلى ترك معسكراتهم خطوة واحدة. ماذا يعرفون عن سيراييفو أو بولفار ميسي سليموفيتجا، المعروف باسم جادة القناصة؟ كانوا سيبولون في سراويلهم. ماذا يعرفون عن متفجرات مرود أو بروم؟ لا شيء. لا يعرفون أي شيء. الآن هم يذهبون لكي يتجولوا هنا وهناك ويستعرضوا أنفسهم. أما نحن، فقد خضنا حروباً حقيقية. في الواقع يكره توماسو المحاربين الآخرين، أولئك الذين لم يذهبوا إلى البوسنة، مثله. غالباً ما يتشاجر مع الجنود العائدين من عمليات قتالية في أماكن أخرى، وخاصة أولئك الذين قاتلوا في العراق لأن في وسعهم أن يتحدثوا عن معركة الناصرية التي كانت مجزرة حقيقية. هو يريد أن يتذكر الناس جنوده فقط بوصفهم أبطالاً فعليين، كما لو أن المجازر الأخرى أقل أهمية من المجازر التي عايشها. يعاني توماسو من الأرق. تريد ماريا حقاً أن تساعده، لكنه صعب المراس. يقولون إنّه لا يزال يرى كوابيس عن تعرض بيوت سيراييفو للنهب والحرق. هناك حيث كانت الساعات الذهبية تتدلى من الخزائن، فما أن تحاول أن ترفعها حتى تنفجر بك. كانت فخاخاً. الخزانة مربوطة بقنبلة. أمام عينيه تطاير مقاتل يافع أشلاء في الهواء. فتى صغير كان قد تلقى أمراً بأن يذهب ويجلب الساعة الذهبية تلك. ولكن هذه مجرد حكايات يحتفظ بها توماسو لنفسه. إنه يرفض أن يحكي عن كوابيسه لأحد. الشيء الوحيد الواضح لديه هو خوفه على صحته، فهو يقترب من المالينخوليا. إنه ينتظر دوره وحسب. وهو متيقن من أنها آتية عاجلاً أو آجلاً. يعاني توماسو من فكرة أنه سينجب أبناء مرضى ومشوهين بسبب اليورانيوم المشع لدرجة أنه فقد الرغبة في إنجاب الأولاد، ما جعل زوجته تطلب الطلاق. عمدت ماريا إلى استفزازه لكي يفقد السيطرة على أعصابه. كانت تريد أن أرى الألم على وجهه.
ـ كم واحداً منكم مات على أرض الواقع؟
ـ الموت ليس أسوأ شيء. لقد شهدت تسعين موقفاً. مات منهم ثمانية وعشرون، وأربعة وعشرون سيموتون قريباً، وثمة واحد وعشرون أحياء بخصيات معطوبة، وعشرون يعانون من ليموفوبيا هودجكينز. كنت أتمنى لو أن ذاكرتي لم تكن بهذه الحدة. حقاً أين وقع العدد الأكبر من القتلى، في الناصرية أم في البوسنة وكوسوفو؟
كان توماسو صديقاً لغايتانو، لكن ماريا لم تعرف ذلك سوى منذ عدة أيام.

ماذا يعرفون عن سيراييفو
أو بولفار ميسي سليموفيتجا، المعروف باسم جادة القناصة؟

ـ هذا غريب. لقد اكتشفت أنني في الواقع أعرف القليل عن غايتانو. لم يسمحوا لي بأن أحتفظ بشيء مما تركه خلفه. لم يتركوا لنا وقتاً كافياً كي نحصل على أشياء، أنا وهو، تذكرني به. لم يتركوا الوقت كي أحتفظ بشيء من ماضينا المشترك. لم يبق لي شيء سوى الأشياء التي أنجزناها معاً، هو وأنا. لا أكثر. حين أخذوه مني، أخذوا كل شيء مني. كان على أحدهم أن يخبرني بأن الأمور تسير على هذا الشكل، بأنني لم أملك بعد... كنت قد هيأت نفسي لكي أحصل على كل شيء. وفي اللحظة التي كنت فيها على وشك أن أفعل ذلك فقدت كل شيء.
تجلس ماريا أمام هدايا الضيوف ودعوات العرس. تجلس أمام شظايا حياة كاملة تبعثرت. حياة كانت قد حلمت بها، لكنها لم تتحقق قط.
ــ من السنوات التي قضيناها معاً ليس لديّ سوى القليل. أعرف أنه كان يحب البرتقال الطازج في الفطور وأنه حين كان يذهب إلى «فيلا ليترنو» لكي يقطف الدراق، كان يعود متخماً لأنه كان يتناول كيلوغرامات كثيرة منها. أعرف أنه كان معجباً جداً بالملاكم بيترو أورينو من توري أنونزيانا، وكان يستقل الشاحنات التي يعرف والده سائقيها لكي يذهب لحضور مبارياته. أعرف أنه كان يحب الاستلقاء معي، وأنه كان يريد الانتقال من الريف، لكنه كان ينتظر إلى أن يصير معنا ما يكفي من المال لشراء بيت، وتلك كانت النقطة التي أوصلتنا إلى هنا. أعرف أنه كان يخجل من تقبيلي أمام العائلة. أعرف أنني كنت سعيدة لأنه كان غيوراً، وكان يؤنبني على أشياء تافهة وكان يقول إنه يفعل ذلك لأنني ألبس بطريقة خاطئة تجعل الكثير من الفتيان يحدقون النظر في.
من الصور التي أرسلها من كابول، أعرف أنه كان يحب أسواقها، وهو كان أخبرني بأن الناس هناك أبعد ما يكونون عن النزعة العدوانية. كتب إليّ يقول إنه يريد أن يأخذني مرة إلى أفغانستان وأن الناس في كابول سئموا من الحرب وأنهم يتوقون إلى السلم والهدوء. كتب يقول إنه لم يكن يتوقع أن يأتي إلى بلاد ساحرة كهذه، إلى حد أنّ المرء يرغب في الاستقرار فيها وعلى المرء ألا يحمل مواقف مسبقة. أعرف أنه كان يلتقط صور الجبال من أجلي، وهو كان أخبرني بأنه حين يستاء من شيء، كان يتمكن من العثور على السكينة إن أراد، وهو أمر كان يعجز عن القيام به هنا. لكن هناك أشياء كثيرة أجهلها عنه. لا زلت بحاجة إلى معرفة المزيد. سأستمر في اكتشاف أشياء جديدة أكثر وأكثر.
هي لا تعرف بعد. كما لو أن غايتانو لم يرحل، بل ما زال على قيد الحياة. ماريا تعي أن الأشياء ستستمر وأن هناك إمكانية أن يقوم غايتانو ليستمر في الحياة.
ـ هل تتذكر كارميلا؟
تسـألني. أحاول بكل جهدي أن أتذكر، لكني لا أفلح في تذكر فتاة بهذا الاسم. ولكن فجأة تتوضح الصورة لي. «الحب عكس الموت». هذا ما كان سيرجيو برونو يردده في أغنية كارميلا، إحدى أجمل الأغنيات التي كان يرددها المغنون في فيلاريكا والتي تجاوز عديدها المئات من الأبيات التي دوّنها شعراء مشهورون.
ماريا واثقة من رؤيتها للأمور. هي ستتشبث به، ستنتزعه من قبضة الموت. تستطيع فعل ذلك طالما استمرت في حبه. أفرديكه معكوسة. فقط لو تمكنت من تثبيت نظرها على أورفيوس. آنذاك سيكون في وسعها أن تأخذه بعيداً عن مملكة هاديس (مملكة الموت، المترجم). أفرديكه يجب ألا تضطرب، يجب ألا يغيب أورفيوس عن نظرها لحظة واحدة.
التحدث عن الحب يسبب الإرباك. يتلعثم اللسان كما لو أنه مثقل بالإرهاق. كصوت شديد الألفة. كالأغاني التي يرددها المرء من دون تفكير في معاني كلماتها. أو كالصلوات التي تتجمد في قالب مقدس وتفقد كل معنى وتتحول إلى شعائر فارغة.
ولكن ثمة لحظات تتبلل فيها كلمة ما بلعاب أفواه كثيرة وتتقاذفها أياد كثيرة بعناية بالغة فتخرج نقية طاهرة. ليس من السهل أن يعرف المرء سبب ذلك. لا يعود واحدنا بالضرورة إلى نقطة الانطلاق إن عمدنا إلى المشي نحو الخلف. يحدث الأمر وكفى. هكذا من دون سبب.
حين كنت أصغي إلى ماريا وهي تدندن الأغنية، بدا لي كما لو أنها تلقنني درساً. قطعت المسافات لكي أتعلمه. كنت قد بحثت عنه في قاع المعارف الفلسفية الميتافيزيقية، لكنني أراه الآن بين يدي بكل بساطة.
والآن، في كل مرة أفقد فيها التركيز، في كل مرة أعجز فيها عن التقاط معاني الكلمات، أفكر بماريا التي أخبرتني عن الأشياء الكثيرة التي لم تزل تجهلها عن غايتانو. ماريا التي تقف على عتبة باب البيت وتودعني على عجل، كما لو أنها اكتشفت فجأة أنها مشغولة.
آنذاك عرفت ماذا يعني الحب حقاً. الشيء الوحيد الذي لا يزال يشدني حين أسمعه وأفهم مغزاه: عكس الموت.