علمت الشاعرة الأميركية تريسي ك سميث (1972) بفوز ثالث دواوينها «حياة على المريخ» بجائزة «بوليتزر» الأميركية للشعر عام 2012، عند عودتها إلى البيت من جولة جري. عنوان هذا الديوان مأخوذ من أغنية ديفيد بوي «حياة على المريخ؟». وفي أقسامه الأربعة يدور الخيال بين الذاكرة والمستقبل، بين البيت والمجرّات، فنصادف المادة المظلمة الموصوفة في علم الفيزياء الكونية، وتوصف المخلوقات الفضائية كما رسمتها أفلام الخيال العلمي.
في هذا الديوان، رجوع إلى لغز الكون، بأسئلة الحزانى والخائفين والمحتارين والساخرين من النبوءات؛ فيه تتجاور الفلسفة والعلم والسينما والحياة اليومية ومرثية أب كان عالم فضاء يعمل في تلسكوب هابل. هناك الرعب دائماً، لا أقله أخبار الجرائم في الصحف إلى تعذيب السجناء في سجن «أبو غريب»: كان الجنود والحراس الأميركيون يسمون أيَّ سجين عراقي باسم Gus إذا استصعبوا نطق اسمه العربي. تقتبس الشاعرة من مقطع ورد في مجلة «هاربر»، عدد 18 أيار (مايو) 2004، على لسان السناتور نورم كولمان، المرشح عن مينسوتا، يقول: «كان جدّ مقزز. ليس هذا ما تتوقعه من الأمريكان». وتذكر أيضاً حواراً من برنامج راش ليمباو، حلقة 4 أيار (مايو) 2004، وعنوانها: «لا يخصُّنا نحن؛ هذه هي الحرب!» -المتّصل: كانت مثل نكتة أخوية في المدرسة أولئك الرجال العراة المكدّسون. -ليمباو: بالضبط. هذا ما قصدتُه بالضبط. لا يختلف ذلك عما يجري في لعبة الجمجمة والعظام، وها نحن ماضون في
تدمير حياة الناس، وها نحن نقف حجرَ عثرة أمام قواتنا العسكرية، ومن ثم سوف نقرّعهم حقاً لأنهم أمضوا وقتاً طيباً. تعرف أن هؤلاء الأشخاص يتعرّضون لإطلاق النار يومياً. أتكلم عن أشخاص يمضون وقتاً طيباً، أنتم أيها الناس، ألم تسمعوا في حياتكم بالتفريغ العاطفي؟ ألم تسمعوا في حياتكم بالحاجة إلى التنفيس عن بعض الهمّ؟


الكونُ حفلٌ منزليّ

الكونُ يتمدّد. انظُرْ: بطاقات بريدية
وسراويل داخلية، قوارير على حوافّها طلاءُ شفاه،

■ ■ ■

مناديلُ وجواربُ يتيمة حوَّلها اليباسُ إلى أنشوطات.
دونما كلمات، على عجَلٍ، يُرمى ذلك كلّهُ إلى السِجِلات

■ ■ ■

مع موجاتٍ راديويةٍ من جيلٍ مضى،
منجرفاً إلى حافّةِ اللانهائي،

■ ■ ■

مثلَ الهواء داخل منطاد. هل الكونُ ساطعٌ؟
أسنُوصِدُ عيونَنا؟ تُراهُ ذائبٌ، ذرّيٌّ،

■ ■ ■

حريقٌ من شموس؟ لكأنّهُ مثلُ تلك الحفلاتِ
التي ينسى جيرانُك أن يدعوك إليها: غناءٌ جهيرٌ ينبضُ

■ ■ ■

عبر الحيطان، والجميعُ سُكارى يترنّحون
على السطحِ. نصقلُ العدساتِ إلى حدٍّ لا يُصدَّق من القوةِ،

■ ■ ■

نصوّبها على المستقبل، ونحلمُ بكائناتٍ
سنرحّبُ بها في ضيافةٍ لا تكِلُّ:

■ ■ ■

يا لروعةِ أنْ أتيتُم! لن نرتاعَ
من الأفواهِ المثقَّبةِ بدبوس، أو من بقايا الأطرافِ المبتورة. سوف ننهض،

■ ■ ■

رُشقاء، أشِدّاء. بيتي هو بيتك. إخلاصٌ لا مزيدَ بعده.
عند رؤيتنا سيُدركون بالضبط ما نعنيه.

■ ■ ■

بالطبع، الكونُ لنا. ما دام مُلكَ أي أحد فهو مُلْكنا.

حياة على المريخ

-1-

تقول تينا ماذا لو كانت المادةُ المظلمة كالمسافةِ بين الناس
عندما لا يكون ما يضمُّهم هو الحبُّ بالضبط، وأظنُّ
القولَ صحيحاً- يا لقوّةِ الشدّ، كأن ثمة ما
يدركُ خيراً منك ولن يدعك بيُسرٍ بالغ تفلتُ مبتعداً، ويا
لشعورك بالضآلةِ والثِّقل، عالِقاً هناك تراوحُ مكانك.

■ ■ ■

آنيتا تشعرُ بالمادة المظلمة كانشدادٍ نحو الهاتف، حتى لو عرفتْ مسبقاً
إن الأذن على الطرف الآخر ما عادتْ هناك. ستضربُ رأسَها
بسلالمِ غرفتِها إلى أن ينفلق، والهسيسُ الذي ينزُّ من السمّاعة
سيُهدهدَها إلى النوم، حيث ستحلمُ بهِ يمشي أمامها تماماً
بمحاذاةِ امرأة يُريقُ فمُها قهقهةً متصنّعة آهاً تلو آه.

■ ■ ■

لكن تينا لا تتحدّثُ عن الرجالِ والنساء، عمّا يبدأ في أجسادنا
وحالما يختفي الفرحُ به يشقُّ طريقَهُ خارجاً نحو أيّةِ بقعة.
إنها تعني العائلات. لنقل، كيف يمكن أن تكفَّ أختان عن معرفةِ بعضِهما بعضاً،
فتكفّان عن سماعِ اللغةِ نفسها، تسعيانِ إلى الملامسَةِ
فتسمطانِ نفسَيهما كلَّ مرة. ما الذي يحيا إلى جوارِنا ونحسبه الهواء؟

-2-

العام الفائت، كان في الأخبار أب أبقى ابنته
حبيسةَ قبوٍ عشراتِ السنين. عاشت تحت قدميه تحديداً،
تطبخُ الطعام، تشاهدُ التلفزيون. ولجتْ وغادرتْ حياتَها
الأنابيبُ ذاتها الممدَّدةُ عبر حياتِه. كلَّ سنةٍ، كان وَقْعُ الأقدامِ يتعدّد.

■ ■ ■

رضّعٌ ينوحون عبر الليل. صغارٌ يصيحون ليُسمح لهم بالخروج.
كل يوم، كان الرجل ينسلّ نازلاً إلى تلك الغرفة، محضراً الطعام،
مضاجعاً الابنةَ التي لا خَيارَ لديها. مثلُ إلهٍ
كان يجوبُ عالماً حيث كلُّ وجهٍ يسترقُ النظر متفرّساً في وجهه،
ثم يُعرِضون عنه. شتموهُ حين أولاهم ظهرَه. لم يسمعْ.
توسّلوهُ الهواء، وما رأى إلا أجساداً جاثية.
كم دانيةً كانت تلك الغرفة. أية حرارة! وزوجته في الأعلى، تسمع
ضوضاءهم تحت قدميها، مفكرةً إنَّ المنزل مِنْ كلِّ بدٍّ
بتقدُّمِ العمر يخلدُ إلى الراحة.

-3-

تقول تينا إن المادة المظلمة مجرد فرضية. شيء
نعلمُ بوجودهِ هناك، لكننا عاجزون عن إثباتهِ بشكل قاطع.

■ ■ ■

عبرها نتحرّك، مقيَّدين، نحسُّها تتخطّفُ
ما ننوي قوله وتقلّبهُ في يديها
كزجاجٍ نُخِلَ من البحر. إنها تتنزّهُ على الشاطئ،
ترمقُ ذاك الضوءَ المنكسر يتراقصُ رواحاً ومجيئاً
قبل أن تردَّه رجراجاً إلى تكسُّرِ الأمواج.

-4-

بأيِّ دروبٍ أخرى كان بمستطاعنا الوصولُ إلى مثلِ هذهِ الأخطاء،
مثل قصّةٍ قُطِّعَتْ إرباً ورُوِيتْ بالمقلوب؟-

-5-

أمسكَ بتلابيبِ قميصي.
كلُّ ما فكّرتُ به ذا أحسنُ قميصٍ عندي
وسوف يُتلِفه. الريحُ، الوحلُ، يداه
قَسُوا عليّ. سمعتُ الآخرين
يتزاحمون على الفُرجَةِ منتظرين
أدوارَهم.

■ ■ ■

ما كانوا مسرورين بتلك الفَعلةِ،
لكنّهم صَبُوا إليها.
كانوا راغبين جميعاً، وتشاجروا
حول مَنْ سيذهبُ أولاً.

■ ■ ■

ذهبنا إلى العربة
حيث ينتظر آخرون جالسين.
قهقهوا وتردّدتِ القهقهةُ
كالغيومِ السُّودِ التي تتفجّرُ
فوق الصحراءِ في الليل.

■ ■ ■

عرفتُ أيَّ اتجاهٍ سأسلكُ
مستدلةً بنتْنِ الأشياء التي لا تزال تحترق.
تسلّيتُ بأن أرى بيتي
على ذاك النحو- كأنّ السقفَ
قد رفعه، ونقلَهُ عنوةً،
شخصٌ يعبثُ بالدُّمى.

-6-

مَن يفهمُ العالم، ومتى
سيجعلهُ مفهوماً؟ أم تراهُ امرأة؟

■ ■ ■

ربما ثمة زوجٌ منهما، جالسين
يشاهدان القشدةَ تتفشَّى في قهوتيهما
مثل القنبلةِ النووية. هذه تساوي تلك، يقول أحدهما
مرتباً زرافاتٍ من الإحداثيات
على شبكة سُمُوتٍ عملاقة. يتبادلان الابتسامات.

■ ■ ■

أمرٌ بسيطُ للغاية، سيَفرغان منه ساعةَ الغداء،
وسيكون لهما وقتُ الأصيلِ كلُّه يمضيانه في تسميةِ
المسافاتِ بين الفضاءاتِ التي تدرّبتْ
عيونُهما على تمييزها. لا يراوِغُهما
شيء. وعندما يزحف نحوهما
العدمُ الذي هو شيءٌ ما، راغباً
في أن يُشعَر به، سيشعرانِ به. ثم يدوّنان على عجل
المعادلةَ تلو المعادلة، مُبتسِمَينِ كلٌّ للآخر،
بشفاهٍ مُحكَمةِ الإطباق.

-7-

كالذبائحِ عُلِّقَ بعضُ السجناء
إلى سقوفِ زنازينهم. اقتِيدَ
«غاس» في الأنحاء ملجوماً. قصدي: جُرَّ.
آخرون رُكبوا كالبغال. كان الحرّاسُ
تحت تأثيرِ مِقدارٍ هائلٍ من المتعة.
قصدي الضغطُ النفسي. جِدُّ مقزّزٍ. ليس
هذا ما تتوقّعونَهُ من الأمريكان.
مجرّد دُعابة. أنا فقط أتكلّمُ عن أناسٍ
أمضوا وقتاً طيباً، تنفيساً للهمّ.

-8-

الأرضُ تحتنا.
الأرضُ حولنا وفوقنا.
الأرضُ تواصل دفعَها بيوتنا،
متضافرةً والجاذبية. الأرضُ
السرمديةُ ترمقُنا ننهضُ ونتلوّى.
رفوشنا، ثيراننا، السطور المثلَّمة
التي ننحتُها في الوحل. الأرضُ
مُصدَّعةً ومُشرَّحةً لتصير إقليماً أو مُقاطعةً.
مقطَّعةً إرباً ومجوَّفة. مسدودةً بإحكام.
مسيَّجةً بالأسلاك. الأرضُ تتكتكُ بالألغام،
صبوراً، تترقّبُ ساعتَها. الأرضُ
معلَّقة في الدوران تسبحُ في الظلام.
الأرضُ تطاردهُ بالبنادقِ حول الشمس.
الأرضُ التي نمتطيها كافرين.
الأرضُ التي نتناهبها كاللصوص.
الترابُ المرصوصُ إلى صلصالٍ في بطنِ
قريةٍ من دون طعام. دافنُنا.
الترابُ يتنزّلُ على أحذيتِنا.

-9-

تقول تينا إننا نرتكبُ ذلك بحقِّ بعضنا البعض، كلَّ يوم،
مُدرِكين وغيرَ مدركين. عندما يكونُ حبَّاً
أحسسنا بأن ما يجري حظٌّ بَحت؛ وعندما لا يكونُ
تخرِّمُنا الرصاصات، المطلَقةُ كأنّما على البطّ.

■ ■ ■

كلَّ يوم. بحقِّ أنفسنا وبعضِنا البعض. وماذا لو
كان ما نرتكبهُ، هو وبواعثُه، لا يمتّان بصلةٍ
إلى ما نحن عاجزون عن أن نراه؟ أيةِ صلةٍ
بسُلطةٍ أخرى سوى العضَلِ والإرادةِ والذعرِ المحض؟
الطقسُ في الفضاء

هل اللهُ كينونةٌ أم قوةٌ مَحضة؟ الريحُ
أم ما يسوسُها؟ إنه يتوسَّدُ أحضانَنا
مثل دميةٍ من قماش محشوة قطناً،
حين تتباطأ حيواتُنا
فيُمكنَنا الإمساكُ بكلِّ ما نحبّ.

■ ■ ■

عندما تهبُّ العاصفة
ولا شيءَ مُلكاً لنا، نمضي مطارِدين
كلَّ ما نحنُ واثقون من فقدانِه، مُفعَمين بالحياة-
وجوهاً تشِعُّ هلَعاً.
نحنُ وشركاؤنا
نحنُ هنا لما يناهزُ بضعَ سُويعات،
يوماً على الأكثر.
نتقرّى الأرجاءَ لنتفهّمَ اليابسة،
أوصالَنا الجديدة،
مرتطمين بقطيعٍ من الأجساد
ريثما يصيرُ جسدٌ بيتاً لنا.
متدافعةً تمضي اللحظات. العشبُ ينحني
ثم يتعلّمُ مرةً أخرى أن ينتصب.

تُرجمت هذه القصائد ضمن برنامج «بين السطور» في جامعة «آيوا» الأميركية.
- توِّجت تريسي ك. سميث أخيراً «ملكة شعراء الولايات المتحدة» لهذا العام.




سيرة

يرجع التأثير الشعري الأول لترايسي ك. سميث (1972) إلى الصف الخامس، وتحديداً إلى قصيدة للشاعرة الأميركية إميلي ديكنسون. منذ تلك اللحظة، سيرافقها هذا السحر الشعري الذي توّجته بقصيدتها الأولى «هزل» وهي لا تزال في المدرسة. إلى جانب قصائد إميلي ديكنسون، صنعت كتابات مارك تواين، وريتا دوف وإليزابيث بيشوب، ذائقتها الأدبية الأولى. ابنة المعلمة والمهندس في قاعدة سلاح الجو الأميركي، درست في جامعة «هارفرد» التي تخرّجت منها باختصاصي الأدب الإنكليزي والدراسات الأفرو أميركية.
صدرت باكورتها الشعرية «سؤال الجسد» عام 2003، ونالت عنها جائزة Cave Canem لأفضل كتاب أول. أما ديوانها الشعري الثاني عام 2007، فحمل عنوان duende، وهو التعبير الذي استخدمه الشاعر الإسباني فدريكو غارسيا لوركا لتوصيف القوة الإبداعية المظلمة والمراوغة التي تسكن كلّ فنان. وقد انشغلت قصائد الديوان بتقاطع المقاومة السياسية مع التقاليد الشعبية لبلدان مثل الهند وأوغاندا والبرازيل. نالت سميث «جائزة بوليتزر» لفئة الشعر عن مجموعتها الثالثة «حياة على المريخ» (2011)، التي مزجت فيها الخيال العلمي مع شذرات من طفولتها وحياة والديها وسيرتها العائلية. السيرة نفسها التي ستفرد لها مساحة أوسع في مذكراتها «ضوء عادي» (2015). من خلال حياة العائلة المتوسطة التي تعيش في كاليفورنيا السبعينيات، أبحرت مذكراتها في تاريخ أشمل، وهو التاريخ الثقيل للسود في خمسينيات القرن الماضي. الشاعرة الأميركية التي ترأس برنامج الكتابة الإبداعية في «جامعة برينستون»، تعمل حالياً على كتابة نص أوبرالي عن إرث العبودية في الجنوب الأميركي، برفقة موسيقى لغريغوري سبيرز. وسيحضر التاريخ الجماعي الأفرو أميركي مجدّداً في مجموعتها Wade in the Water التي ستصدر السنة المقبلة.