للمرّة السابعة، تطير غادة السمّان (1942) إلى لغة شكسبير لتضع توقيعها هذه المرّة على «يا دمشق وداعاً». الرواية التي صدرت أخيراً، ضمن منشورات «دارف بابليشورز» (ترجمة نانسي روبرتس)، تعمل في منطقة متاخمة للسيرة، وإن سعت صاحبة «أعلنت عليك الحب» إلى المراوغة التخييلية.
لن نتوه عن خطوات «زين الخيّال» وهي تستعيد شوارع دمشق الستينات بعيني غادة السمّان نفسها. ذلك أنّ كل وقائع الرواية تشي بسيرتها كأنثى متمرّدة وعاشقة للحرية في مجتمع يحيط رغبات المرأة بأسوار عالية، لكنها ستحطّم الحجارة الصلدة للأعراف، وتتزوج مَن تحب، قبل أن تطلب منه الطلاق بقوة الإرادة نفسها.
استعادة أمس المدينة بمسح طوبوغرافي هي السكة الموازية لسيرة كاتبة وجدت نفسها محاصرة في «زقاق الياسمين»، فكان عليها أن تهرب بعيداً عن الهواء المعلّب بعد عملية إجهاض. قبل مغادرتها دمشق إلى بيروت للدراسة في الجامعة الأميركية، ستتعرّف إلى «غزوان العائد» الفلسطيني الذي عشقها من النظرة الأولى، على مقعد في «حديقة السبكي». لن نحتاج إلى فحص عميق في معرفة هويّة هذا العاشق: غسان كنفاني. ستتطوّر هذه العلاقة في بيروت إلى حدود الجنون. وإذا ببيروت تفتح ذراعيها على اتساعهما لهذين العاشقين. تلجأ غادة السمّان إلى سردية متعددة الأصوات في إعادة ترميم سيرتها ما بين دمشق وبيروت، إذ تدخل الكاتبة على خط الأنثى في تفسير «مذاق الحريّة»، وترويض الحنين إلى مدينتها الأولى، رغم مكابداتها ومطاردتها من سلطة أمنيّة دمغت سجلّها باتهامات باطلة.
عند هذا المنعطف، تتسع فتحة العدسة لتضيء أحوال دمشق في ظل الانقلابات العسكرية، في موازاة جرحها الشخصي بوصفها «ليمونة معصورة»، كأن هذه الرواية محاولة في الكتابة والمحو، بقصد تصحيح أخطاء الماضي، وإزاحة الشوائب عن فكرة «الحق في الحب والحياة» سلوكاً ومجازاً. كانت زين الخيّال لا تتردد في اقتحام «مقهى الهافانا» الذكوري، وتقود سيارتها في شوارع دمشق، وتُصلح عجلاتها المثقوبة، وتكتب بجرأة في الصحف. لن تغيب دمشق البعيدة عن ذاكرة الكاتبة، فهي تستحضرها بطقوسها وبخورها وآثامها. تعترف بأنها لا تمتلك «مناعة ضد الحنين»، ذلك أن دمشق بالنسبة إليها ستبقى على الدوام: «لقاح ضد النسيان».