هناك جماعة من البشر لا ينالون قدراً كافياً من الشهرة والمكانة اللائقة بهم رغم كل ما قدموه من تضحيات. لذلك، نحتاج أحياناً إلى هذه الأعمال التي تسلّط الضوء عليهم. وبقدر ما تكون هذه الكتابات شاقة ومجهدة نتيجة قلة المواد والمعلومات المتاحة عنهم، إلا أن التجربة بحدّ ذاتها لا تعادلها متعة.
إن المشكلة الرئيسة التي نواجهها تتعلّق بالكم المتخم من المعلومات والتكرار حول مجموعة من الأسماء الكبيرة التي أسهمت في نهضة هذا البلد ورفعته. ولأن لكلّ منهج تأثيرين أحدهما سلبي والآخر إيجابي فإن سيرة هؤلاء الكبار قد تسهم بشكل غير مباشر في التغطية على مسيرة آخرين.
في كتابه الأخير «صنايعية مصر» (دار الكرمة ــ 2017)، يرصد الكاتب الساخر عمر طاهر مشاهد من حياة بعض بناة مصر في العصر الحديث. إن هذا الكتاب الذي يجمع بين صفحاته التأريخ والنوستالجيا، يشبه إلى حدّ بعيد قطعة فسيفساء كبيرة تتشكل من وجوه عدة لعبت دوراً بارزاً في إعادة تشكيل الدولة المصرية وإعطاء نكهة خاصة إلى ذاكرتها الجمعية.

ومن أبرز هذه الشخصيات: حمزة الشبراويشي الذي استطاع خلال حياته المهنية أن يجعل من زجاجة «كولونيا 555» واحدة من أكثر الروائح تأثيراً في حياة المصريين بعدما خرج من قريته «شبراويش» لا يحمل معه سوى ذائقة خاصة في صناعة العطور. وبعدما افتتح محلاً صغيراً في الموسكي ثم وسط القاهرة، قام بشراء قطعة أرض في دار السلام ليحوّلها إلى مصنع. وخلال حياته، أشرف بنفسه على أشجار الليمون في حديقة منزله، وكانت حديقته في المعادي تفوز بجائزة الملك فاروق الأولى كل عام. هكذا أصبحت الكولونيا، وبودرة التلك، ومستحضرات التجميل تفصيلاً أساسياً في حياة المصريين إلى أن أُصيب الرجل بجلطة مع نهاية عام 1965. وكانت نهايته المأساوية بعد قرار الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بتأميم ممتلكاته وشركته بمبلغ لم يتجاوز 165 ألف جنيه. وكذلك، نجد في الكتاب شخصية تومي خريستو، الخواجة الذي أدخل صناعة الشوكولاته إلى مصر. إنه الرجل الذي وجد في السعادة عجينة طيّعة لصُنع قوالب شوكولا كفيلة بأن تجعل أجيال المصريين سعداء. اشترى قطعة أرض بالقرب من المصنع حوّلها بعد ذلك إلى ملعب كرة قدم حتى تُقام عليه مباريات للعاملين، وأشرف عليها بنفسه. ومع الوقت، طرح ماركة «كورونا» تحت شعار «لنأكلها سوياً». وخطرت له فكرة شعار الغزالة بعدما ارتطمت الكرة برأس غزال شارد بالقُرب من ملعب كرة القدم، وأودت بحياته. عندها أراد أن يخلّد ذكراه، فجعله شعاراً للشركة التي تم تأميمها هي الأخرى في عام 1963. كما نقرأ حكاية محمد سيد ياسين، ملك الزجاج ضدّ الكسر، الذي قرر السفر إلى ألمانيا بهدف اكتساب خبرة في صناعته. تخصص في صناعة بلورة اللمبة الجاز. وبعد أكثر من ثلاث سنوات من الخسائر، أتقن العمال سرّ الصنعة، وأصبحت اللمبة الجاز جزءاً لا يتجزأ من حياة المصريين.

ناعوم شبيب مهندس برج القاهرة، وصدقي سليمان مهندس السد العالي
وفي منطقة شبر الخيمة، نجح ياسين في تأسيس مصنع الزجاج الذي حلم به، بعدما رفضت جميع البنوك إقراضه بخلاف طلعت حرب. وفي غضون سنوات قليلة، أصبحت منتجاته الزجاجية ركناً أساسياً في البيوت المصرية. ومع قيام الثورة، تحوّل المصنع إلى قطاع عام: «النصر للزجاج والبلور»، وأصبح يدر جنيهات بسيطة كان يصرفها على علاجه حتى وفاته عام 1971.
من بين الشخصيات المميزة التي تناولها الكتاب سمعان صنداوي الذي تربع كصنايعي للموضة في حياة المصريين. وفد هذا الشاب إلى مصر من جبال سوريا إلى القاهرة، واشترى محلاً صغيراً في الحمزاوي، وخصصه لبيع الخردوات والملابس. مع الوقت، بدأت تجارته مع أخيه في الرواج، وباتت ملابس صنداوي تفصيلة أساسية داخل كل أسرة مصرية. كما نقرأ حكاية أنيس عبيد الذي غيّر صناعة الأفلام والترجمة في المنطقة العربية ككل، وليس داخل مصر فقط. وكانت بصمته واضحة من خلال لصق الترجمة بمواد كيميائية خاصة على أشرطة الأفلام الأجنبية. ولا ننسى دور أبلة نظيرة التي جعلت من كتابها «أصول الطهي» الصادر في أكثر من 800 صفحة، مرجعاً أساسياً لكل فتاةٍ وسيدة مصرية داخل مطبخها. وهناك أيضاً «أبو رجيلة» الذي أدخل فلسفة الأتوبيس والمظلات الأسمنتية، وطوّر الحياة الكرويّة في مصر. لكن مشروعه الضخم انتهى بالتأميم. إن صنايعية هذا الكتاب لا ينتهون، فلكلّ منهم بصمته الخاصة أمثال: ناعوم شبيب مهندس برج القاهرة، وأندريا رايدر صنايعي الموسيقى التصويرية في الحياة المصرية، وصدقي سليمان مهندس السد العالي، وجوزيف ماتوسيان صنايعي السيجارة «الكليوباترا»، ونجيب المستكاوي صنايعي النقد الرياضي في مصر، وفطين عبد الوهاب مخرج أفلام الكوميديا المصرية، والضيف أحمد صنايعي ثلاثي أضواء المسرح، وفتحي قورة كاتب الأغاني المصرية، وكلوت بك مؤسس الطب في القطر المصري، وسناء البيسي صنايعية الصحافة النسائية في مصر...
ولا يخلو الكتاب من اللفتات كإلقاء الضوء على فرقة أم كلثوم، وكذلك الموسيقار الراحل علي إسماعيل، وبديع خيري الكاتب المسرحي الكبير، والشيخ مصطفى إسماعيل واحد من كبار شيوخ التلاوة في العالم العربي. لقد أبهر الرجل الجميع بمهارته وذائقته السمعية. فقد حدث أن استوقفته أم كلثوم في ردهات الإذاعة المصرية، وسألته: أين تعلم الموسيقى، وكيف أتى بكل هذه الخبرة؟ ليجيبها بالسمع. وقال عن موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب: «يفاجئنا دائماً بمساراتٍ موسيقية وقفلاتٍ غير متوقعة. وله جرأة في الارتجال الموسيقي، والصعود بصوته إلى جواب الجواب بشكل لم تعرفه في أي صوتٍ حتى الآن». ويمكن أن نقرأ كذلك عن الشيخ سيد النقشبندي مهندس التواشيح الدينية في العالم العربي، والإذاعية القديرة صاحبة اللغة العربية السليمة صفية المهندس، ووجيه أباظة المحافظ الجسور، وجمال الليثي الذي أنعش صناعة الفيديو في الحياة المصرية، وسعد لبيب صاحب الأفضال الكبرى على التلفزيون المصري، وماما لبنى التي أثرت الحياة الأدبية للناشئين في العالم العربي، والمهندس محمد كامل إسماعيل مهندس مجمع التحرير وتوسيعات الحرمين الشريفين، والنبوي المهندس الذي بذل قصارى جهده من أجل الارتقاء بعموم الصحة في مصر، وأخيراً حكمت أبو زيد التي غيّرت مفهوم الشؤون الاجتماعية في الحياة المصرية.
لا يُمكن بسهولةٍ تلخيص هذا الكتاب نتيجة للكمّ المعلوماتي الذي يحويه بين دفتيّه. ولهذا فقد اكتفينا بإعطاء لمحة عامة عن المعلومات الأساسية بداخله. إننا نحتاج من فترة إلى أخرى إلى مثل هذه الكتب التي تضيء على وجوه تستحق، لكن أخفاها الظلّ.