رغم مرور نحو خمسة عشر عاماً على صدور «وقائع على الأرض - مزاولة علم الآثار وادعاءات تملك الأرض في المجتمع الإسرائيلي» الفريد في مادته، إلا أن التعليقات عليه لا تزال تتوارد بما في ذلك هذا العام. هو من الصنف اللازمني، الذي لا يفقد قيمته العلمية والفكرية إلا بزوال مسببات ظهوره، وهو ما يسري على المؤلف السابق.العالمة الفلسطينية ناديا أبو الحاج، جمعت في هذه الدراسة الفذة، التي هي رسالة الدكتوراه التي قدمتها في مادة الآثار، بين علوم التاريخ والإنثروبولوجيا والأنثروبولوجيا التاريخية والسوسيولوجيا والسياسة والآثار. لقد بينت الكاتبة، عبر منهجية علمية صارمة ناقشت فيها كل حالة عن تسييس الآثار، الدور الذي مارسته الآثار في صياغة ماضٍ متخيَّل قائم على فرضيات، ومن ثم في تشكل المجتمع الاستيطاني الصهيوني ومنحه نوعاً من الثبات (الوهمي - زم). وقد استعانت الكاتبة بعمل «صندوق استكشاف فلسطين» والبيانات السنوية التي كان يصدرها «ليثبت» تاريخ مفترض.

الكاتبة قدمت مجموعة من الأفكار المهمة المرتبطة برغبة الآثاريين اليهود في الكشف عن ماضي فلسطين، الجغرافيا (أقول يهود، لكن بالبعد الديني، لأن الدولة الصهيونية لا تعرف تبعية إسرائيلية - ز م). فهمهم تقديم أرضية شرعية لمهاجرين جاؤوا من مختلف بقاع المعمورة لاستيطان أرض مجهولة ولا علاقة لهم بها، إلا عبر أساطير وخرافات بهدف ربطهم بها، وهنا يظهر تسييس علم الآثار.
إذا كان الراحل إدوارد سعيد قد قدم موضوعته أن الاستشراق خدمة سياسية استعمارية، فإن نادية أبو الحاج أوضحت ارتباط علم الآثار بالسياسة، أي كونه أداة سياسية. نعم، قد لا يكون هدف كل شخص يدرس علم الآثار سياسياً، لكن من غير الممكن تجاهل تسييس هذا العلم وحقيقة أن المنحى الذي تتخذه التنقيبات هنا سياسي، كما أشار العرض الأسبق.
من الأمثلة المثيرة التي تقدمها الكاتبة سبب قيام العدو الصهيوني بإطلاق الصفة (تل) على مجموعة من المواقع مثل تل أبيب وتل حاج، تل يوسف... إلخ. فالصفة تل تعني أن الموقع أقيم على مستوطنة بشرية سابقة، والمستوطنة الحالية تكون بالتالي استمراراً للماضي. هذا يخلق في ذهن المستوطن ماضياً، متخيلاً حقاً، لكن الآثار تحاول فرضه حقيقة!
نادية أبو الحاج تقدم سلسلة من النقاشات العلمية المستفيضة عن العلاقة بين العقيدة القومية والاستعمار الاستيطاني وإعادة إنتاج المعرفة التاريخية والوعي (الزائف بكل تأكيد - ز م). ومن الأمثلة الكثيرة التي توردها الكاتبة التنقيبات في موقع قلعة مسعدة ورواية بار كوكبا.
الصهاينة شنوا الهجوم تلو الآخر على عمل الكاتبة الفلسطينية بالحجة إياها، أي أنه معادٍ لإسرائيل وللصهيونية. بل إنهم اتهموا (كذا!) الكاتبة بأنها استفادت من عمل الراحل إدوارد سعيد (لكن ما مكمن الخطأ في هذا؟). نادية أبو الحاج سارت على خطى كتابات ماكس فينريش وإرِك هبسباوم في موضوع تسييس الآثار. لكن هذا الهجوم اللاعلمي لم يرق علماء الآثار الذين قوموا العمل إيجابياً على نحو مطلق، بل كتب العديد منهم أنهم فرضوه ضمن مناهجهم التدريسية الجامعية وعلى طلابهم قراءته، ذلك أنه كشف أيضاً الارتباط العضوي في «إسرائيل» بين السياسة والعالم الأكاديمي.