صفحات الإبداع من تنسيق: أحلام الطاهرترجمة: نزار آغري

وضعت في كاييرو كل طاقتي الدرامية في نزع الشخصنة، وفي ريكاردو رييس وضعت كل انضباطي الذهني، مصاغاً في القالب الموسيقي الذي يناسبه، وفي ألفارو دي كامبوس وضعت كل الشحن العاطفي الذي أتجنبه عادة سواء في شخصي أو في طريقة عيشي.

فتأمل، عزيزي كاسياس مونتيرو، أن هؤلاء ينبغي أن يكونوا، في حال النشر، بدائل عن فرناندو بيسوا، ملوثين وبسطاء.
الآن أريد أن أجيب عن سؤالك حول أصل أسمائي المستعارة. وسأرى إن كان في مقدوري أن أجترح جواباً شافياً.
أبدأ من الجانب السيكولوجي.
أصل أسمائي المستعارة هو في الأساس جانب من الهستيريا التي تقبع في أعماقي. لا أعرف بالضبط إن كنت هستيرياً عادياً أم أنني هستيري هزيل عصبياً. أرجح الفرضية الثانية، لأنّ شخصيتي تنطوي على مظاهر من الكسل لا تعتبر عادة من أعراض الهستيريا بمعناها الدقيق. وبناء على ذلك، فإن الأصل الذهني لأسمائي المستعارة يكمن في نزعة عضوية راسخة لدي نحو نزع الشخصنة والتكلف. هذه الظواهر ـ لحسن حظي وحظ الآخرين ـ تتمظهر في النشاط الذهني. أعني أنها لا تتجلى في حياتي العملية، على السطح ومن خلال الاحتكاك مع الآخرين، بل هي تنفجر في داخلي وأنا أصطدم بها لوحدي. فلو كنت امرأة (في المرأة تنبثق الظواهر الهستيرية على شكل هجمات وما شابه)، فإن كل قصيدة لألفارو دي كامبوس (أو، لي، بطريقة هستيرية أكثر هستيرية)، سوف تتسبب في إثارة الشغب في الجوار. ولكنني رجل، والهستيريا عندنا نحن الرجال تأخذ طابعاً ذهنياً، ولهذا فإن الأمر ينتهي بالصمت وكتابة الشعر.
هذا يفسر، إلى حد كبير، الأصل العضوي لأسمائي المستعارة.
والآن سأروي القصة المباشرة لأسمائي المستعارة. أبدأ بأولئك الذين ماتوا، وبالبعض ممن لم أعد أتذكرهم. أولئك الذين ضاعوا في الماضي البعيد والمنسي إلى حدٍّ كبير من طفولتي.
منذ طفولتي، كانت تحركني رغبة عميقة في أن أصنع حولي عالماً خيالياً، محاطاً بأصدقاء وأقارب لا وجود لهم. (لا أعرف، بالطبع، هل حقاً لم يكن لهم وجود أم أنني أنا لم أكن موجوداً. في أمور كهذه، وفي غيرها من الأمور، ينبغي ألا نكون دوغمائيين). بما أنني أعرف نفسي باعتباري الشخص الذي هو أنا، فأنا أتذكر أنني تأكدت من خلال الملامح والحركات والهيئة والتاريخ من أن أثبت ذهنياً العديد من الشخصيات غير الحقيقية التي كانت بالنسبة لي مرئية على قدم المساواة مع أولئك الذين نعتبرهم من الواقع الفعلي بالرغم من أننا قد نكون مضللين في ذلك. هذه النزعة، المترسخة عندي منذ أن وعيت على من أسميه «أنا»، ظلت ترافقني وتخمد قليلاً تلك الموسيقى التي تسحرني دون أن تخفي طريقتها في أن تسحرني.
وهكذا فأنا أتذكر ما يمكن أن يعتبر اسمي المستعار الأول، أو بالأحرى صاحبي الأول الذي لا وجود له، وهو شوفالييه دي با، وكان عمري ست سنوات، حيث بعثت برسائل منه إليّ، وما زالت شخصيته، التي لا يلفها الغموض بشكل كلي، تستحوذ على الجانب المكرس للحنين من عاطفتي. كذلك أتذكر، بشكل أقل وضوحاً، شخصية أخرى لا أتذكر اسمها، باستثناء أنه كان هو أيضاً غريباً وكان، لا أعرف كيف، غريماً لشوفالييه دي با. هذه أشياء تحدث لكل الأطفال، أليس كذلك؟ ربما. وربما لا. ولكن في تلك الفترة قد تأثرت بهم، وما زلت أتأثر بهم، لأنني أتذكرهم بطريقة تستدعي بذل الكثير من الجهد لكي أقتنع أنه لم يكن لهم وجود.
هذا الميل لإحاطة نفسي بعالم آخر، مساو لهذا العالم ولكن مع ناس آخرين، لم يغادر مخيلتي قط. وهو مر بمراحل عديدة بما فيها المرحلة الراهنة التي تحدث الآن في سنوات نضوجي. داهمني إلحاح روحي، غريب كلياً، لسبب أو آخر، بخصوص ما أكون أو ما يفترض أن أكون. تكلمت إليه، مباشرة، وبشكل عفوي، كما لو كان أحد أصدقائي وهيأت له اسماً ووضعت له تاريخاً، وعلى الفور رأيت في داخلي هيئته ـ وجهه، قوامه، وسلوكه. وهكذا فقد خلقت العديد من الأصدقاء والمعارف ووضعت لهم ذرية، مع أنه لم يكن لهم وجود قط على أرض الواقع، ولم أزل حتى اليوم ـ بعد مرور ثلاثين سنة تقريباً ـ أسمعهم وأحس بهم وأراهم. أكرر: أسمعهم وأحس بهم وأراهم، وأتلقى منهم التحيات.
حوالى عام 1912، إن لم أكن مخطئاً (وهذا ما أشك فيه كثيراً)، خطرت لي فكرة أن أكتب عدة قصائد ذات طابع وثني. خربشت بعض الأشياء بصيغة الشعر الحر (ليس على طريقة ألفارو دي كامبوس ولكن بأسلوب نصف عادي إلى حد ما) ومن ثم تخليت عن المحاولة. ولكن في تلك الخربشة الغامضة، عثرت على الملامح الأولية للشخص الذي كان يكتب. (من دون علمي، كان ريكاردو رييس قد ولد).
بعد سنة ونصف أو سنتين، أتذكر أنني تلقيت التحدي من سا كارنيرو: أن أخلقه في هيئة شخصية ريفية معقدة إلى حدّ ما وأقدمه للناس، لا أذكر على وجه الدقة كيف، ولكن على أساس أنه كائن فعلي. اشتغلت عدة أيام عليه، غير أني لم أفلح. اليوم الذي رفعت يدي عنه ـ وكان ذلك في 8 آذار (مارس)، 1914 ـ جلست إلى طاولة عالية وأخذت ورقة وبدأت أكتب، واقفاً، كما أفعل دوماً حين تواتيني الفرصة لذلك. وكتبت حوالى ثلاثين قصيدة، واحدة بعد الأخرى، في نوع من الانخطاف، دون أن أعرف ماهيتها. كان يوماً مظفراً في حياتي، ولن أصادف مثله مرة أخرى أبداً. بدأت بالعنوان: حارس الغنم. وتبع ذلك انبثاق شخص من داخلي أسميته، منذ ذلك الحين، ألبيرتو كاييرو. أستمحيكم العذر لسخافة الجملة: من أعماقي نهض سيدي. كان هذا رد فعلي الفوري. وهكذا لم أكد أنهي تلك القصائد الثلاثين حتى أسرعت لتلقف المزيد من الأوراق ومضيت أكتب، دون توقف هذه المرة أيضاً، القصائد الست التي شكلت «المطر المائل» لفرناندو بيسوا. دفعة واحدة وبالتمام والكمال. كان هذا إيذاناً بعودة فرناندو بيسوا، عودة ألبيرتو كاييرو إلى فرناندو بيسوا نفسه. ومن الأصح القول إن هذا كان رد فعل فرناندو بيسوا على لا وجوده المتمثل في ألبيرتو كاييرو.
مع ظهور ألبيرتو كاييرو حاولت ـ بشكل غريزي ولا واع ـ أن أجد له تلاميذ. وهكذا من قلب وثنيته المزيفة، أخذت ريكاردو رييس الخمول، الذي أوجدت اسمه وألبسته إياه، إذ سبق أن رأيته هناك في تلك المرحلة. وفجأة، وبالضد من ريكاردو رييس، نهضت من أعماقي وبشكل متهور شخصية جديدة. انبثقت، فجأة، من بين حروف الآلة الكاتبة، ومن دون انقطاع أو تصحيح، «الأنشودة المظفرة» لألفارو دي كامبوس. الأنشودة للعنوان والاسم للرجل.
ثم أنشأت طغمة لا وجود لها، ونظمتها كلها في مراتب فعلية. وعمدت إلى قياس العلاقات المتبادلة والدخول في صداقات وصرت أسمع في داخلي نقاشات وآراء متصارعة، وفي كل هذا يبدو لي أنني أنا، بوصفي خالق هذه الأشياء، كنت الأقل حضوراً. يبدو أن كل شيء كان يسير بمعزل عني. ويبدو أن الأمور ما زالت تسير على هذا النحو. إذا أتيح لي يوماً أن أنشر السجالات الجمالية التي جرت بين ريكاردو رييس وألفارو دي كامبوس، فسوف تلاحظون الفرق بينهما وتدركون أن لا علاقة لي بالأمر.
عندما كان «أورفيو» قيد النشر، بدا ضرورياً في اللحظة الأخيرة القيام بحذف بعض الأشياء للتكيف مع الترقيم الصحيح للصفحات. فاقترحت على سا كارنيرو أن أضيف قصيدة «قديمة» لي حول ما كان عليه حال ألفارو دي كامبوس قبل أن يتعرف إلى كاييرو ويخضع لتأثيره. وهكذا ألفت «آكل الأفيون»، وحاولت فيها أن أكشف النقاب عن الميول الخفية لدى ألفارو دي كامبوس، على أساس ما سيكشف عنه لاحقاً، ولكن من دون القيام بأي تلميح لعلاقته بمعلمه كاييرو. كان علي أن أقوم بتطوير الكتابة خارج القصائد أو بتلفيق قصائد أخرى عبر الطاقة المزدوجة لنزع الشخصية. ولكن في نهاية الأمر، لا أعتقد أن القصيدة كانت سيئة بل هي في الواقع تكشف عن ألفارو وهو في بداية انطلاقته.
أظن أنني كشفت لك عن أصل أسمائي المستعارة. إن بقيت بعض النقاط التي تحتاج إلى المزيد من الإيضاح (أنا أكتب بسرعة، وحين أكتب بسرعة يعوزني الوضوح)، فإنني أنوي القيام بذلك من أجلك في الوقت المناسب. ولا شك في أن تحقيق كل ذلك أمر هستيري بالفعل، لأنني ذرفت دموعاً حقيقية أثناء كتابة بعض الفقرات من «ملاحظات في ذكرى معلمي كاييرو» بقلم ألفارو دي كامبوس. ومن شأن هذا أن يجعلك تدرك مع من تتعامل يا عزيزي كاسياس مونتيرو.
تعليق إضافي حول كل هذا. لقد رأيت أمامي، في الفضاء الشاحب ولكن الفعلي للحلم، أوجه وملامح ألبيرتو كاييرو وريكاردو رييس وألفارو دي كامبوس. وضعت لهم أعماراً وحياة. ولد ريكاردو رييس في 1887 (ومع أنني لا أتذكر اليوم والشهر، فإنّهما مدونان في مكان ما)، في أوبورتو، وهو طبيب، ويعيش الآن في البرازيل. ألبيرتو كاييرو ولد في 1889 وتوفي في 1915. وهو كان ولد في ليشبونة ولكنه قضى كل عمره تقريباً في الريف. لم يكن يزاول أي مهنة ولم يتلق تعليماً يذكر. ولد ألفارو دي كامبوس في تافيرا في الخامس عشر من تشرين الأول (أكتوبر) عام 1890 (في الساعة الواحدة والنصف بعد الظهر، كما أخبرتني فيريرا غوميز، وهذا صحيح فقد تأكدت من ذلك من خلال القيام بعملية تنجيم لتلك الساعة). وكما تعرف، فإنه كان مهندساً بحرياً (في غلاسكو) وهو يعيش الآن هنا في ليشبونة، عاطلاً عن العمل. كان كاييرو متوسط القامة، ومع أنه كان نحيفاً فإنه لم يظهر نحيفاً كما كان عليه في الواقع. ريكاردو أقصر إلى حد ما، ليس كثيراً، وهو قوي البنية، وشرس. ألفارو دي كامبوس، طويل القامة (يبلغ طوله 175 سنتميتراً، أطول مني بسنتيمترين)، رهيف القد مع ميل بسيط إلى الانحناء. كلهم حليقو الذقن: كاييرو شاحب الوجه، لا لون له، عيناه زرقاوان. رييس بني غامض اللون. كامبوس يتأرجح بين اللونين الفاتح والغامق، نموذج غامض للبرتغالي اليهودي، ولهذا شعره ناعم وغالباً ما يفرقه إلى جنب، ويرتدي نظارة وحيدة العدسة. لم يتلق كاييرو، كما قلت، تعليماً ذا شأن ـ المرحلة الابتدائية فقط، توفي أبوه وأمه في وقت مبكر فاضطر إلى ملازمة البيت حيث عاش على الدخل الذي كانت تدره بعض الأملاك ـ عاش مع إحدى خالاته من جهة الأم. ريكاردو رييس كان طبيباً، كما ذكرت، واستقر في البرازيل منذ عام 1919 ولكنه تعرض للترحيل بسبب ميوله الملكية. وهو غدا لاتينياً نتيجة التدريب المدرسي ونصف هيلليني بجهوده الخاصة. ألفارو دي كامبوس كان تلقى تعليماً عالياً. سافر إلى أسكوتلندا لدراسة الهندسة، الميكانيكية في البداية، ومن ثم البحرية. في إحدى العطلات، رحل إلى الشرق ومن هناك استمد «آكل الأفيون». قام أحد أعمامه، وكان قسيساً، بتعليمه اللاتينية.
كيف أعمد إلى الكتابة تحت هذه الأسماء الثلاثة؟ كاييرو، بمحض إلهام صاف وغير متوقع، من دون أن أعرف أو أقصد ما سوف أكتبه. ريكاردو رييس، بعد نوع من التداول المجرد الذي سرعان ما يتجسد في أنشودة. كامبوس، حين تعتريني رغبة مفاجئة لأن أكتب ولكنني لا أعرف ماذا أكتب. اسمي النصف مستعار، برناندو سواريس، الذي يشبه ألفارو دي كامبوس من عدة أوجه، يبدو على الدوام متعباً أو نعساناً، بحيث تتعطل إلى حد ما قواه في المحاججة أو التخمين. هو يكتب نثراً في حالة من الحلم النهاري الدائم. وهو نصف اسم مستعار لأنه، كونه لا يشكل شخصية بالنسبة لي، لا يختلف عني كثيراً بل هو مجرد انعكاس مشوه لشخصيتي. إنه أنا، لكن بقدر أقل من العقلانية والعاطفة. (إنه) نثر، باستثناء ما يخفف العقل من عبئه في داخلي (...) مساوياً لي، هو ولغته البرتغالية، سيان بالكامل. وبقدر ما يتعلق الأمر بهذا الجانب، فإن كاييرو يكتب ببرتغالية رديئة، وكامبوس، بعقلانية مشوبة بالثغرات، مثلاً عندما يستعمل كلمة بذاته بدلاً من بنفسه، الخ. ورييس أفضل مني ولكن تسيطر عليه مسحة طهرانية أجدها مبالغاً فيها. يصعب علي أن أكتب النثر ـ غير المنقح ـ الذي يكتبه رييس أو ذاك الذي يكتبه كامبوس. التعبير بالشعر أسهل لأنه أكثر عفوية.

* من رسالة إلى أدولفو كاسياس مونتيرو، المؤرخة في 13 كانون الثاني (يناير) 1935.