«إن أردت أن تفهم تصوّر أحد المفكرين للعالم، ينبغي أن تفكك تطوره المعرفي عبر الأيام لاستكشاف تلك المعالم الثابتة في أفكاره التي هي نابعة من أصالة نظرته الذاتيّة للأمور، لا نتيجة استجابته للظروف المرحلية وتأثيرات الآخرين العابرة».
مقولة غرامشي هذه تكاد تنطبق على أعمال المفكر والفيلسوف الفرنسي جان بودريار (1929 ـــ 2007) الذي غاب عن عالمنا قبل عقد تماماً من دون أن تغيب أفكاره وآراؤه الجدليّة لا سيما في أجواء ما بعد الحقيقة، و«الحقائق» البديلة وبهلوانيات السياسيين الشعبويين. قراءة أي عمل له من دون وضعه في سياق تجربته الفكرية الممتدة على نصف قرن، ستقود القارئ حتماً إلى سوء فهم لتصور حالة العالم كما كان عند بودريار، أحد العقول القليلة التي فككت مرحلة ما بعد الحداثة. وللدقّة واحتراماً لذكراه، ينبغي أن نقول إنه اعتبرها مرحلة اللا ـ ما بعد الحداثة! بمعنى أنّ الحداثة تغيرت وتحوّرت، لكن لم يولد شيء جديد بعدها، على خلاف ما يعتقد كثيرون.
حرب بودريار المعرفية عبر عشرات الكتب والمقالات والمقابلات، يمكن تسميتها بالحملة للدفاع عن «الحقيقة» في زمن عدّه قائماً على الانتحال والصور الزائفة والخيالات الضحلة، وقبل سنوات من وصولنا إلى مرحلة «ما بعد الحقيقة»، عندما يفضّل الناس المعلومات الزائفة ويركنون إليها ويرفضون بذل أي جهد معرفي للوصول إلى حقائق مغايرة لما قدّم إليهم بوصفه الواقع. وليس غريباً أن مخرجي فيلم «ماتريكس» الأشهر في الثقافة الشعبية عن التداخل بين الواقع والمتخيّل، تأثرا بأعماله، وكانا يطلبان من الممثلين قراءة اثنين منها على الأقل قبل التوقيع على عقد التمثيل في الفيلم! بودريار كان في حياته - كما بعد موته ــ أحد أكثر المفكرين والمنظرين الثقافيين موضعاً للجدل، ونجماً (شعبياً) بين مفكري النصف الثاني من القرن العشرين. أفكاره تدرَّس اليوم على نطاق واسع في مجالات علوم إنسانيّة عدة. وقد تناقل الملايين عبر العالم بعضاً من تعليقاته اللاذعة (عن اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر، وحرب الخليج وحرق السيارات في شوارع باريس، وتعذيب المعتقلين في سجن «أبو غريب» الأميركي)، لكنّه كان دائماً عصيّاً على التصنيف: تارة تراه وسائل الإعلام ماركسيّاً ثم ما بعد ماركسي، وطوراً منظراً لما بعد الحداثة، أو ما بعد التاريخ أو ما بعد النظرية، حتى وصفه أحدهم بأنه «ما بعد – الكل شيء». لكن الأكيد ـ على الأقل من المنظور الأكاديمي - أنه لا يمكن الحديث عن فصل إبستمولوجي بين كتاباته في مراحل حياته المختلفة.
أول كتبه المنشورة على نطاق عام هو «نظام الأشياء» (1968) الذي كان أساساً رسالته للدكتوراه. ورغم شهرة الكتاب الفائقة حتى اليوم، فإن بودريار نفسه اعتبره غير ممثل لأفكاره، ليكون «مجتمع الاستهلاك» (1970) أولى إضافاته النوعيّة في نقد سياقات العيش في المجتمعات المعاصرة إبان فترة التحولات السائلة في باريس 1968 وما بعدها من خلال مساءلة الفن الشعبي والاستهلاك والإعلان والإعلام. بعدها، بدأ في كتابه «التبادلات الرمزيّة والموت والإغواء» (1976) مرحلة من التنظير العميق حول الرموز والمحاكاة والتمثيلات الزائفة للواقع (مقحماً في كثير من الأحيان أقوالاً مزيّفة منسوبة إلى أشخاص معروفين ضمن نصوصه، في ما عدّه نوعاً من طرازه الخاص في الفكاهة).
أمضى بودريار وقتاً طويلاً في شبابه مدرساً للألمانية في إحدى المدارس الثانوية، وترجم عشرات الأعمال منها إلى الفرنسيّة لعدة ناشرين باريسيين. وإذ واجه صعوبات بداية في الالتحاق بالجامعة، فإنه كان آخر الملتحقين بكوكبة نجوم مثقفي جيله: فوكو، دريدا، دولوز، ألتوسير وغوتاري وكثيراً ما أحس نفسه غريباً عنهم. تأثر فكريّاً بجان بول سارتر، وهيربرت ماركوز، وهنري لوفيفر، بالإضافة إلى كارل ماركس بالطبع. لكن لا أحد منهم استطاع وضع بودريار في صندوقه الخاص، ولذا تعرض كثيراً لسوء فهم متعمد أو غير متعمد.
كتب في نقد كل الظواهر الثقافية المعاصرة من العمارة، والتصوير الفوتوغرافي وموسيقى البوب، إلى السينما والسياسة والحروب والفن الحديث، من دون أن يبخل بتعليقات سريعة لمّاحة على تقلبات الأحداث. وجهة نظره أننا وصلنا إلى مرحلة من التطور الاجتماعي والاقتصادي بحيث لم يعد ممكناً فصل المنتجات عن الأيديولوجيا أو الثقافة، بالنظر إلى تحول الغرب من مجتمعات مبنيّة على إنتاج الأشياء إلى مجتمعات مبنيّة على إنتاج المعلومات والصور الزائفة، معتبراً أن التمييز بين الأصل والنُسخ (هي بالتأكيد ليست الأصل) لم يعد ممكناً. في عام ١٩٨٣، تحدث عن عالمنا المغرق في المحاكاة: أي التوليد بالنماذج المتخيّلة للواقعي من دون وجود أصل حتى، وسمّاه «فوق الواقع» حيث ينهار المتخيل والزائف في الواقع، وينهار الواقع في المتخيّل والزائف إلى درجة أن «يختار» المتلقي المحاكاة بوصفها «حقيقة» أكثر من الحقيقة ذاتها. اعتبر بودريار أنّ «الحياة ذابت في الصورة التلفزيونيّة، وذابت الصورة التلفزيونيّة في الحياة»، متنبئاً في ما يبدو بالصعود المرعب للسياسيين الشعبويين الذين يعتمدون على حملات الترويج والإعلان لقيم شخصيّة غير ذات مضمون حقيقي عبر ما دعاه بـ «البيانات والتصريحات المقتضبة وفرص التقاط الصور».
جادل أن ما تنشره وسائل الإعلام من فضائح بين الحين والآخر، ما هو محاولة غير بريئة لإخفاء ما يدعوه بـ «القسوة اللحظيّة» للرأسمالية وشراستها غير المبررة ولاأخلاقيتها الجوهريّة. تحليلاته تأخذنا إلى ثورة تامة على المعنى الكامن في التمثلات والرموز والصور: مثلاً، «رامبو» عنده، ليس تمثيلاً بقدر ما هو «حقيقة» نمط التفكير الأميركي بشأن فيتنام. كما كتب سلسلة من ثلاث مقالات في توصيف الشكل الجديد من حروب الجيل الثالث التي أطلقت في حرب الخليج عام ١٩٩١ جُمعت لاحقاً في كتاب بعنوان «حرب الخليج لم تقع» أصبح بمثابة نقد شامل لثقافة الإعلام الكاذب وأدوات صناعة «الحقيقة» وحروب الرموز الثقافية.
يقدّم بودريار التاريخ بوصفه حكاية خطيّة أحاديّة الاتجاه صوب الانحدار والتدهور الحتمي للحضارة والاحتضار الطويل. وهو في نقده للتغيرات الاجتماعية والثقافيّة، اعتبرها شكلاً من أشكال الإنهاك الثقافي: فكل ما سيتبقى هو تكرار ثقافي لا نهائي. إنه زمن الضحالة.
تعرض بودريار لانتقادات كثيرة، لا سيما بعد نشره بعض كتبه في الدار التي يملكها الصهيوني برنار هنري ليفي، ومساهماته في بعض المجلات الثقافية المحسوبة على «اليمين الجديد». نعته بعضهم بـ «الفيلسوف المهرّج» وبـ «منظر فرنسي أعطي أكثر من حجمه»، وحتى «مدّعي ثقافة» بينما رآه آخرون «أبرز منظري ما بعد الحداثة». صور كثيرة عن أصل غير معروف، لم نعد نعلم أياً منهما هو الحقيقة، تماماً كما نظّر بودريار لحياتنا المعاصرة. حتى الرجل نفسه عندما سئل قبل موته بعامين كيف يريد أن تكتب مرثياته في الصحف، أجاب: «من أنا؟ لا أعرف. ما أنا إلا محاكاة زائفة لذاتي»!