في وقت كان فيه «تلفزيون لبنان» (1977)، يستعدّ لدخول عصر الصورة الملوّنة، وترك الأبيض والأسود، كانت شرارة الحرب في نيسان (أبريل) 1975، تحيل الصورة قاتمة، وتنذر بعصر جديد أسود، تتناتشه الميليشات المتنازعة، وتستغل الإعلام لبث دعايتها الحزبية والتحريضية، على رأسها الإذاعات التي أنشئت بشكل غير قانوني وعشوائي إبان تلك الفترة، وأسهمت في تراجع دور «الإذاعة اللبنانية» الرسمية.
من إذاعة «صوت لبنان» التابعة لـ «حزب الكتائب»، أولى الإذاعات التي ولدت في بداية الحرب (1975)، الى «صوت لبنان العربي» (1978) التي أنشأتها «حركة الناصريين المستقلين» (المرابطون)، مروراً بـ «لبنان الحر» التي خرجت في العام نفسه، على يد «القوات اللبنانية»، و«صوت الشعب» (الشيوعيون)، و«صوت لبنان الموحد» (المردة)، و«صوت الجبل» (الحزب التقدمي الاشتراكي)... كل هذه الإذاعات التي بقيت أو اختقت مع مرور الوقت، تكرّست ذراعاً إعلامية تجييشية، وارتبط وجودها بوجود الميليشيا التي تديرها.
لعبت الإذاعة في الحرب الأهلية اللبنانية الدور الأبرز على صعيد الانتشار، وتعبئة الناس مناطقياً، وطائفياً، بسبب غياب انتشار التلفزيون، الذي بدأت ملامحه تتكوّن بعد 10 سنوات من هذه الحرب الطاحنة، أي في عام 1985. وما عزّز سطوة دور الإذاعات، هو عجز الصحف عن الوصول إلى القراء، بسبب تقسيم المناطق، وتحكّم أزلام الميليشيات بالأرض وبطرق العبور، والقصف العشوائي. إذاً، هيمن الصوت العسكري الحربي الإذاعي في تلك الفترة، وولدت مقدمات النشرات الإخبارية أو الاستهلاليات، التي أضحت لاحقاً عُرفاً مكرساً على القنوات المرئية والمسموعة، تشتغل على توجيه عقول الناس، وغسلها، وتجييشهم في المنحى الذي تريد، تبعاً للمصالح، ولكلمة السرّ المعطاة لها. وهنا، كمنت الخطورة الأكبر في تسعير أجواء الحرب والتقاتل على الأرض من خلال الحرب العسكرية، ومن وراء المذياع من خلال حرب دعائية تحريضية، تولي أهمية للأخبار التي تتقاطع مع مصالحها، وتهملها إن كانت متضاربة مع خطها السياسي والعسكري.

كان الباروميتر الذي
يقيس الناس من خلاله الوضع الأمني وأحوال المعابر

لذا، كانت الضرورة القصوى في الحركة الرسمية السياسية، لا سيما في عهد الرئيس الياس سركيس (من 1976 إلى 1982) الذي تولى السدة الرئاسية بعد عام من اندلاع الحرب الأهلية، برفقة رئيس الحكومة آنذاك سليم الحص الى إقفال هذه المنابر، واعتبارها تسهم في تأليب اللبنانيين على بعضهم، وليست كلمة الحص بأن هذه المنابر تقوم «بقصف إذاعي»، إلا دليلاً على خطورة دورها في تلك الفترة. كلنا يذكر ما حصل عام 1978، حين عجزت الحكومة عن إقفال هذه الإذاعات، فأصدرت قراراً تمنع فيه كل الشخصيات الرسمية، من إعطاء تصاريح إلى تلك الإذاعات بهدف الضغط عليها، وإضعافها. إلا أن هذا الأمر لم يثمر أيضاً في ظل ضعف أداء «الإذاعة الرسمية»، التي كانت غائبة كلياً عن ميدان الحرب اللبنانية، وتحرّر أخبارها، كأنها تعيش في بلاد الصين.
ومع هذا الدور الأخطر لإذاعات الميليشيات، كان للإذاعة دور إيجابي، في ربط المواطن اللبناني بها، من خلال معرفة الطرق الآمنة والسالكة، قبل خروجه من منزله إلى عمله. ولا يمكن المرور على تاريخية وحيثية دور الإذاعات اللبنانية في الحرب الأهلية، من دون التعريج على تجربة الإذاعي شريف الأخوي (1928 ــ 1987)، التي امتدت على عامين ونصف العام. تحوّل الأخوي من وسيط بين المواطن وقوى الأمن الداخلي عام 1973 لمعرفة أحوال الطرق، ومساعدة الناس في تسهيل معاملاتهم الإدارية إلى وسيط من نوع آخر عند اندلاع الحرب. ففي فقرة يومية «سالكة وآمنة» على أثير «الإذاعة اللبنانية»، تمكّن الأخوي من الوصول إلى الخرائط الأمنية للطرق في لبنان، ومساعدة اللبنانيين في العبور من منطقة إلى أخرى. كان الرجل يجول في ملالات قوى الأمن الداخلي، ليساعد المواطنين في الوصول إلى بيوتهم، تاركاً منزله وعائلته، ومستقراً في غرفة غرفة العمليات الخاصة بالأمن الداخلي. حتى إنّه عام 1976، تعرّض لمحاولة اغتيال على يد مسلّح دخل مبنى مديرية القوى الأمنية. لكن سرعان ما أحبطت هذه المحاولة بفضل تنبه العناصر الأمنية وارتباك المسلح. لا شك في أنّ تاريخ الحرب، وذاكرة الناس، ارتبطا بصوت الأخوي، وهو يتلو عليهم أخباراً حزينة وقاسية، عبر عبارة «مجدداً نحن معكم»، أو «تنذكر ما تنعاد»، التي كان أول مَن أطلقها. عبارة باتت اليوم رمزاً لانتهاء الحرب عسكرياً. شريف الأخوي كان الباروميتر الذي يقيس الناس من خلاله انفراج الوضع الأمني، أو حصد مزيد من الضحايا بسبب القنص، والحواجز الطيّارة، والقتل على الهوية.