صدر كتاب «حكايات من ليالي العنف» لعدنان مدانات فيعام 1986 في طبعة محدودة، ولم ينل حقه من التوزيع في حينه، وأعاد نشره في عمان في عام 2016 مع إضافة قسمٍ ثان للقسم الأول عن بيروت، يروي فيه كيف تعرض لوقائع عنف من نوع آخر في بلده لمدة ثماني سنوات.
ولأنه يذكر حاثة اختطاف حقيقية تعرضنا لها سوية في بداية الحرب اللبنانية، فأنا أعود في مناسبة ذكرى الحرب في ١٣ نيسان للكتابة حول ذلك الحادث باختصار.

■ ■ ■


«يوم من الأيام ولعت الدني
ناس ضد ناس علقوا بهالدني
وصار القتال يقرّب على التلال
والدني دني.
وعلقت على أطراف الوادي
شادي ركض يتفرج
خفت وصرت اندهله
وينك رايح يا شادي
اندهله وما يسمعني
ويبعد يبعد في الوادي
ومن يومها ما عدت شفتو
ضاع شادي» (فيروز ـ أغنية «أنا وشادي»)

* «كانت الحرب تتوهج في نبض الدم وخفقان القلب لقطعان وشيكة الصعود وهي تركض قبل أن تصيبها الطلقات» (حيدر حيدر ـ من قصة «غبار الطلع»)

■ ■ ■


في شهر نيسان من عام 1975، كانت بداية أجواء الحرب الأهلية وانفجار العنف في بيروت إثر حادث الاعتداء على حافلة للركاب تضم فلسطينيين عائدين من حفلة عرس وسط حي عين الرمانة الخاضع لسيطرة الأحزاب اليمينية المسيحية. أسفر الاعتداء عن مقتل جميع من كان في الحافلة. من هذا اليوم، بدأت الحياة في بيروت تأخذ طابعاً آخر.
في اليوم الخامس لبدء المعارك تم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق.
في اليوم الأول للهدنة، كنت برفقة صديقي المخرج زيد (1) الذي كان قد حضر في زيارة من دمشق إلى بيروت قبل يومين من بدء الاقتتال. اتصلت بصديقة لبنانية مارونية معروفة كانت تقطن في حي الحازمية الواقع في المنطقة الشرقية من بيروت.
قالت الصديقة إنها تعاني من رشح شديد، وأنها تلتزم الفراش، وأصرت أن نقوم بزيارتها.
استأجرنا سيارة أجرة ومضينا في طريقنا للحازمية مطمئنين دون أن نتأثر من التواجد العسكري المكثف لمسلحي الأحزاب المسيحية اليمينية على الحواجز في الشوارع التي مررنا بها.
عندما انتهت الزيارة، خرجنا وكانت الساعة تقترب من منتصف الليل والشوارع الخالية والمطر يهطل بغزارة. سرنا باتجاه ساحة الحازمية أملاً في العثور على تاكسي دون أي فائدة. احتمينا من المطر تحت شرفة بارزة وسط فراغ الساحة المظلم.
فجأة توقفت إحدى السيارات قربنا، وفتح أحدهم بابها الخلفي. اندفعت نحو السيارة وقفزت داخلها وأشرت لصديقي كي يتبعني. سألت سائق السيارة إن كان يمكن أن يوصلنا إلى بيروت الغربية. نظر السائق إلى زميله الجالس بقربه وأومأ موافقاً. وهو يسأل: «إلى أين تريدان الذهاب؟»
- «إلى كورنيش المزرعة، أو إلى أي مكان يتوفر فيه تاكسي» أجبته ببراءة.
رد السائق: تكرموا، سنوصلكم للكورنيش.
غير أن الطريق التي قادنا فيها، فيما هو يهمهم مع زميله بالكلام غير المسموع لنا، لم تكن مألوفة لي.
- أين نحن؟
- في الشياح. رد عليّ.
كنت أعرف الطريق الرئيسي الذي يوصل الحازمية بالشياح، وهو طريق دولي يصل بين دمشق وبيروت. غير أن الطريق التي قادنا عبرها كانت تمر وسط أراض مزروعة.
توقفت السيارة فجأة وخرج سائقها وهو يلعن بصوت عال الناس الذين يضعون البراميل عرض الشارع. أزاح البرميل وعاد إلى السيارة ليتابع طريقه.
توقفت السيارة فجأة أمام عمارة غير منتهية البناء. وأخذ السائق ينادي بصوت عال على شخص اسمه إلياس.
بعد لحظات، كانت السيارة محاطة بالمسلحين الهائجين الذين بدوا كالأشباح وسط ظلام الليل.
- انزلوا. فتشوهم. أين السلاح؟ أين خبأتماه، كيف وصلتما إلى هنا. جواسيس. أهذه سيارتكما؟ فتشوا صندوق السيارة. هكذا توالت الأسئلة والأوامر.

شعرت بفوهة بندقية تلتصق
برقبتي من الخلف، فالتفت لأرى مراهقاً يقف متأهباً غاضباً

دفعنا أحد المسلحين بخشونة باتجاه مدخل البناء، وهناك بدأ التحقيق معنا فيما كانت الشتائم تتطاير من حولنا.
اقترب منا مسلح كبير في السن وطلب هوياتنا بهدوء. أبرزت له بطاقة خاصة بالمراسلين الصحافيين الأجانب كنت حصلت عليها رسمياً من وزارة الإعلام اللبنانية، وأبلغته أننا كنا في الحازمية في زيارة لصديقة من عائلة معروفة.
شعرت في تلك اللحظة بفوهة بندقية تلتصق برقبتي من الخلف، فالتفت لأرى مراهقاً يقف متأهباً غاضباً. تطلعت نحو الرجل الكبير مستفسراً.
قال الرجل: اطمئنوا. وأشار إلى المراهق بالابتعاد، ثم تركنا وغاص في عتمة البناء حاملاً وثائقنا. وجدنا أنفسنا من جديد محاطين بشبان مسلحين.
ولم يكن واضحاً لنا ماذا يمكن أن يحدث. عندما عاد الرجل، أعلن مبتسماً أن بإمكاننا الانصراف.
سيرا بين البساتين في هذا الاتجاه، وبعد ثلاثمائة متر ستجدان مخفراً للدرك، وهم سيساعدونكما.
شكرناه وسرنا في طريقنا.
اخترق رتابة صوت سقوط المطر صوت قرقعة سحب أقسام البندقية الرشاشة، فتسمرنا في مكاننا. التفت إلى الخلف وشاهدت المراهق وهو يصوّب في عتمة الليل بندقيته باتجاهنا.
- ماذا تفعل. توقف.
صرخت به في ردة فعل غريزية، واندفعت نحوه مسرعاً دونما أي تفكير بالعواقب.
هرع الرجل الكبير ليستطلع الأمر.
- يريد أن يقتلنا من الخلف. قلت له
- اطمئنا. سأمنعه. تابعا طريقكما.
لكننا أصررنا أن يوصلانا بالسيارة ذاتها التي اختطفتنا.
في الطريق، قال لنا السائق الذي عاد مع زميله إلينا:
- نحن آسفون لما حدث، أنتم عرب أخوان... أهلاً وسهلاً بكم... ظنناكما فلسطينيين مخربين. لبنان يحب العرب.
تركتنا السيارة عند بعض رجال درك يجلسون لصق الجدار الخارجي للمخفر محتمين من المطر المنهمر بالشرفة.
قال السائق لهم وهو يستدير عائداً: لقد أفرجنا عنهم، فاستلموهم.
وبدا أن قدومنا أوقظ في داخلهم رعباً هم في غنى عنه. وأمرنا أحدهم بالانصراف فوراً، ولم يبالوا برجائنا أن نبقى لديهم حتى طلوع النهار أو على الأقل حتى يتوقف المطر.
لم يكن بإمكاننا إلا أن نذعن وأن نسير في الاتجاه الذي دلونا عليه كي نصل إلى الطريق الدولي الذي يمر من مفترق «غاليري سمعان»، الذي سرعان ما سيشتهر بالخطف والقتل والقنص.
اقتربنا من الطريق الرئيس لاحظنا نقطة ضوء خفيفة في منتصف الطريق على يسارنا فاتجهنا نحوها. غير أن الضوء انطفأ فجأة.
قررنا، والخوف قد بدأ يتسرب إلى نفوسنا، أن ننعطف إلى اليمين باتجاه الشياح. لحظتها سمعنا وقع خطوات خفيفة خلفنا. توقفنا متوجسين ثم استدرنا لمواجهة الشخص القادم من خلفنا.
كان ذلك، كما تبين لنا، حاجزاً لوحدة من الفرقة 16، الوحدة الخاصة من الأمن الداخلي اللبناني التي ارتبط اسمها بالقمع والشراسة، وكأنهم يجسدون بتصرفاتهم النسخة الرسمية من شخصية «القبضاي اللبناني».
- مساء الخير. قلت بلطف للدركي المقترب منا بحذر شديد، فيما بدا رفاقه من خلف شاهرين أسلحتهم.
- من أنتم؟ سألنا بصوت حازم.
- نبحث عن تاكسي. أجبته.
- سيدي، صرخ الدركي وقد استشعر جرأة مفاجئة، إنهما غير مسلحين.
وأضاف: من أين جئتما؟
- من الحازمية. أجبته.
- من دمشق. قال صديقي.
- ارفعا أيديكما. سيدي، انظر إلى هذين «العضوين».
- هوياتكما. أمرنا الضابط.
- ارفعا أيديكا. صرخ الدركي عندما هممنا بإنزال أيدينا لإخراج الوثائق من جيوبنا.
- كيف تريد أن نبرز الهويات، إذن؟ أجاب صديقي ساخراً.
بدأنا نجيب على أسئلته غاضبين ومطالبين بالمساعدة في إيصالنا، ومن جهة أخرى، كان الضابط يحاول أن يدخل الرعب إلى قلوبنا.
ثم جاء الخلاص. كانت سيارة تاكسي تقترب في الشارع الآخر ببطء شديد.
خاطبت الضابط: نشكركم. لا داعي لإزعاجكم.
ركضنا باتجاه السيارة وطلبنا من سائقها الوقوف
- قف. صرخت بالسائق بقوة.
عندما وصلنا إلى منطقة الجامعة العربية، وجدت نفسي دونما وعي مني أكرر أمام كل حاجز للمسلحين: مساء الخير. نحن من هذه المنطقة.
ولم يبال أحد بنا. أما صديقي فقد علّق ساخراً: لا أحد يسألك من أين جئت!
عندها فقط أدركت كم كنت مرعوباً.
في بداية عام 1975، عرض المخرج اللبناني الشاب مارون بغدادي فيلمه الروائي الطويل الأول «بيروت يا بيروت». وفي هذا الفيلم، برزت ظاهرة العنف الطلابي المسلح واستعداد «حزب الكتائب» لخوض المعركة المسلحة. كان الفيلم بمثابة نبوءة عن حرب أهلية حقيقية وشيكة الحصول.
في تلك الفترة، انتشرت بنجاح في صالات السينما أفلام الكاراتيه.
لم يدرك أحد في حينه أن الأيام الأربعة الأولى من الحرب الأهلية لم تكن إلا جولة أولى من قتال سيستمر سنوات وسيتطور باتجاه المجهول.

* سينمائي عراقي مقيم في برلين

1) الكاتب يذكر أسماء مستعارة فزيد هو قيس الزبيدي، والفنانة هي غلاديس أبو جودة