الرواية الأولى مثل الحب الأول، تبدأ حافلة بالأسئلة وبالفرح وبعدم تصديق التحقق، هذا إن كان من يكتبها مخلصاً لها وللكتابة، وليس لآمالٍ موهومة بالعثور على توصيف اجتماعي ورومانسية تسبق الاسم. فقد بدا لي دائماً أن ما يميز الروائي الحقيقي قدرته على متابعة تعددية الشخصيات، ومن ثم كتابة وابتكار أكثر من شكل ورواية؛ لأن بإمكان أي إنسان ــ حسبما قال البعض ــ أن يكتب رواية واحدة على الأقل، هي قصة حياته.أحياناً، تبدأ الرواية هكذا: كنا في فلسطين، وخلال حرب حزيران 1967 اصطحبنا والدي الطبيب في رحلة ليوم واحد إلى عمان، لكي يتركنا في ضيافة عائلة من الأصدقاء ويعود إلى عمله في اليوم ذاته. كان مداوماً في المستشفى ليلَ نهار، وكان قلقاً علينا، ونحن فتيات يتيمات الأم نقضي الليل على درج البناية وسط الظلام الدامس بسبب تحويم الطائرات فوق المدينة. استغرقت رحلة الساعة الواحدة في السيارة، التي ابتدأت العاشرة صباحاً، إلى عمان الجزء الأكبر من النهار، وقعنا خلالها في فخ قصف الطيران الإسرائيلي، الذي قضى يومها على زميلتي في الصف وعائلتها جميعاً محترقين بالنابالم داخل سيارتهم. كنا وسط الجموع المرتاعة الراكضة من مخيمات أريحا تحت القصف. وخلال نصف ساعة من وصولنا إلى عمان، قاموا بقصف جسر «اللنبي» وتهديمه، فانضممنا بغمضة عين إلى النازحين الجدد. وبلمحةٍ واحدةٍ فقدنا كل ما لدينا في الحياة غير اللجوء ذاته!

لم يَرضَ والدي بعدها أن يغامر بقطع المخاضة الخطرة ليعود مع أطفال قد تجرفهم المياه أو يصابون بطلقات الاحتلال. هكذا انضممنا إلى جموع اللاجئين الأبدية من دون توقع، ومن دون قصد، وبفرق ساعات بسيطة، لو لم يُقصَف الجسر فيها لعاد والدي إلى بيته وعيادته، وتدبر أمر إعادتنا بطريقةٍ ما بعدها. أما وقد صرنا جميعنا في الخارج، فقد مُنِعنا مثل غيرنا من العودة.
هذه هي كل الحكاية.
في بيروت اكتشفت أنني واحدة بين عشرات آلاف المنفيين، وأنني فجأةً فقدت كل ما لديّ حتى الهوية.
خلال المدرسة كنت أكتب قصصاً قصيرة، أتلمس فيها طريقي، وقد علق عليها، وشجعني على كتابتها كلٌّ من محمود شقير وخليل السواحري. في بيروت، تبعثرت قصصي بفعل بدء الحرب الأهلية، وصار عليّ اكتشاف العالم من حولي كي أفهم أين أنا وماذا حدث بي وبمن حولي. فجأةً انتُزعت من عالمي، ومن بيتي، وسريري، وثيابي، وكتبي التي جمعتها منذ الطفولة، ومن صحبة عشرات العائلات التي نشأت معها من أصحاب وأقارب، ووجدت نفسي في عالمٍ آخر لا أعرف فيه أحداً، ولا يعرفني فيه أحد. ضاع من كانوا يعرفون اسمي ورسمي وفصلي ومن أنا وما هي أنواع الطعام في بيتنا وأسماء أخواتي. فجأةً، افتقدت مفتاح الخزانة الصغيرة التي أُخبئ فيها مذكرات كل يوم. كان لزاماً عليّ أن أجد نفسي الضائعة في منفىً يلد حرباً أهلية مستعرة، منفىً يتفنّن بإعادة تدوير نفسه عبر اختراع حرب جديدة لا ناقةَ لنا فيها ولا جمل.

رفضت أي تقديمات على غلاف الرواية من كُتّاب مشهورين جداً كانوا يتطوعون للكتابة، لأنني لم أقبل أن تكون هنالك أي كلمة شفاعة بيني وبين القارئ


أذكر أنني كنت أتساءل خلالها، وبكثير من الدهشة، عن معنى كلمة «طائفية»، واستدعى الأمر تدخلاً وشرحاً من عدة أشخاص، وعلى عدة مرات، كي أفهم، أنا الفتاة المقدسية القادمة من مركز العالم القديم، حيث تتعايش الطوائف من دون أن أعرف أن الاستعمار الكولونيالي الصهيوني كان يثبت امتداداته الجديدة على خريطتها.
إذاً، بدأت الحرب، وصارت حياتي التي كنتُ أحاول أن أجد لها معنىً مجرد تشظيات تتطاير في الفضاء حولي، غير مدركةٍ ما يمكنني عمله كي أتذكر أين أنا، وكيف أضعتُ نفسي داخل أتون تلك الحرب التي حتمت علينا مواجهة الأهوال والقصف والعذاب اليومي بتفاصيله الصعبة.
بدأت أكتب رواية «بوصلة من أجل عَبّاد الشمس»، كي أتذكر نفسي وأُذكّرها من أنا، ومِن أين حضرت، وما الذي يحدث حولي. كان الافتقار إلى الوطن يمضّني، وصور الطبيعة البهيجة في أريحا وفلسطين وأنا محتبسة وراء الجدران بسبب القصف تعاودني حنيناً وتوقاً. وكنت أشتاق إلى أُناسٍ كثيرين مهمين في حياتي، عرفتُ أنني محرومة بشكل مطلق من استئناف حياتي معهم.
في ذلك الوقت كنت المحرر الثقافي في مجلة «الحرية»، وكان هذا يتيح لي أن أطّلع على الحدث السياسي في لحظته، ولفتت نظري عملية خطف الطائرات، ورأيت في أحد الأيام صورة شاب وسيم يقف فوق حقل من العشب الأخضر وخلفه طائرة في البعيد. كان مهندس طيران فلسطينياً تحول إلى خاطف طائرة في عملية شهيرة، هي «مقديشو». وتساءلت حينها: ما الذي يجذب شاباً مثله لأن يترك حياته المليئة بالفرص ويذهب إلى عملية انتحارية؟! وكان ذلك مفتاح رواية «بوصلة من أجل عبّاد الشمس»، التي اختطّت نهجاً جديداً في الرواية الفلسطينية. فالنساء الثلاث فيها هن الشخصيات الأولى اللواتي يحاورن الفعل مع الناس، ويحاولن العثور على مطرحٍ في الحياة عبر مشروع نضاليٍّ أو عمليٍّ يشغل كل واحدة فيهن. والخاطف يعطي الجوَّ إيقاعه، لكن فعله الفردي لا يُغير التاريخ بقدر ما يخلق دماراً وتعدّياً على حقوق الأبرياء. كما أنّ المكان هو الفضاء المفتوح للمرأة التي اعتادت الرواياتُ أن تحبسها وراء جدران المنزل أو الحبيب، وتلك كانت ملاحظة التقطتها الناقدة زهور كرام. جنان تشتغل في العمل التطوعي في مخيمَي صبرا وشاتيلا، وتراقب تشكُّل المقاومة الفلسطينية في أول صعودها بعثراتها وإنجازاتها، وشهد تعمل مع المقاومة الفلسطينية في بلدٍ عربيّ، وثريا تعمل في دائرة الآثار في نابلس، وتجد نفسها وسط الجموع الخارجة في انتفاضاتٍ شعبيةٍ لم تتوقف منذ ذلك الحين. شخصيات الرجال كانت هي المحتبسة وراء مسار أيديولوجي أو حركي.
كتبت الرواية ثلاث مرات في سنتين. وعندما قرأها سهيل إدريس، وكنا جيراناً نلتقي عند البَقّال في منطقة الجامعة العربية، قال إنها تحتوي على «قماشة روائية»، ولكن هذا لا يكفي، فعاودت كتابتها لمرة ثالثة. في المرة النهائية سمعت عن دار «ابن رشد»، فقدمتها لها، فقال مدير الدار إنهم سيقرأونها للحكم عليها. كان حيدر حيدر هو مستشار الدار. طلبوا مني الاتصال بعد أسبوع، فنسيتُ المسألة كلياً، واعتقدتُ أنهم سيعتذرون مثل من سبقهم، فلم أهتم بالسؤال إلا بعد عشرين يوماً. عاتبني حيدر حيدر حينها وأنا على الهاتف قائلاً: روايةٌ بهذه الروعة، وتثير الدهشة، ولا تهتمين بالسؤال! وقال إنه لم يصدق أن تكتب امرأة عربية روايةً فيها الجرأة والقوة والقدرة على التعامل مع العالم بهذه الطريقة.
وبسبب تربية والدي الإسبارطية، والحزم الذي تعلمته من أمي المثقفة، رفضت أي تقديمات على غلاف الرواية من كُتّاب وكاتبات أصدقاء كانوا مشهورين جداً بمعايير تلك الأيام. كانوا يتطوعون للكتابة، وأنا أرفض، لأنني لم أقبل أن تكون هنالك أي كلمة شفاعة بيني وبين القارئ. طبعت الرواية ونالت تقريظاً واسعاً، وأعاد الرفاق في الأرض المحتلة تصويرها وإصدارها، وظلت على قوائم الكتب الأكثر مبيعاً في الأردن وفلسطين أكثر من عامين. تمت طباعتها ثلاث مرات في طبعاتٍ عربية، وصدرت بترحيبٍ كبيرٍ من نُقاد ووسائل إعلام نسوية بريطانية باللغة الإنكليزية، ومن ثم صدرت بالفرنسية.
والمأساة أنّ دولةً عربيةً لا تزال تضعها على قوائم المنع، بالرغم من صدورها منذ زمن طويل، ما يؤثر على دخولها إلى الكثير من معارض الكتب حتى الآن. كتب والدي مقالاً حينها يحاورني حولها، وينتقد عنوان الرواية «بوصلة من أجل عبّاد الشمس» الذي رآه أطول من اللازم، ومشبهاً إياه بعنوان «الساق على الساق لأحمد فارس الشدياق»، لكني حتى الآن لا أزال أرى أنه ينطبق على حالتنا. هل يعرف الثوريون أي جهة يتبعونها حين يبحثون عن الشمس؟!
وهل كان لزاماً علينا أن نمر بكل هذه الحروب حتى نكتشف هويتنا بين حين وآخر، وننزلق إلى تفاصيل تدمر الواقع قبل أن نبحث عن إعادة البناء والترميم؟ وأين هو دور النساء في كل هذا؟ ولا يزال السؤال ماثلاً!
* كاتبة وسينمائية فلسطينية