الكتابة لدى هيثم الورداني (1972) هي محاولة الانشغال بالأسئلة. أسئلة تحفر عميقاً في الوعي، من دون إغفال المتعة. من هنا، لا يقيم الورداني في نصه الجديد «كتاب النوم» (دار الكرمة) اعتباراً كبيراً للمواصفات التقليدية للأدب. نحن أمام نصّ مربك ومثير، خارج التصنيفات التقليدية المتعارف عليها عربياً على الأقل. مغامرة جديدة يخوضها صاحب «كيف تختفي» (2014)، و«جماعة الأدب الناقص» (2003) حول فكرة غير مطروقة!
فى الكتاب، يختبر صاحب «حلم يقظة» (2011) حساسية الأدب وخياله وقدرته على التفكير في الأشياء من دون تحويلها إلى موضوعات جامدة. لذا يصف هو كتابه بأنه «بحث أدبي» يطرح فيه ثلاثة أسئلة رئيسية: سؤال التاريخ: هل النوم ضد الثورة؟ هل النائم خارج التاريخ؟ وبأي شكل؟ ثم سؤال الهوية: هل النائم جزء من جماعة أم فرد معزول؟ وأخيراً علاقة النوم بالسلبية وبدورات الإنتاج المختلفة وموقعه فيها. وهذه الأسئلة قادت صاحبها إلى أسئلة أخرى، مشتبكاً بأفكار فلسفية وإبداعية وتاريخية! بدأ الورداني الكتابة في بداية التسعينيات، وأصدر مجموعته الأولى «خيوط على دوائر» (1995) بالاشتراك مع مجموعة من أبرز كتاب جيله. هاجر معظمهم إلى خارج مصر (أحمد غريب، علاء البربري، أحمد فاروق)، ورحل منهم نادين شمس ووائل رجب. وهاجر هو إلى برلين حيث يعيش ويعمل حتى الآن. لحظة البداية ـ أي في التسعينيات- كان تأثيرها حاسماً في فهم الورداني لمفهوم الشعر ليس بوصفه قصيدة وإنما كحاسّة وطريقة في التفكير. هذا ما ظهر في كتاباته الأخيرة: «الكتابة بوصفها وسيطاً للتأمل والتفكير وليس فقط للحكي». في مناسبة صدور الكتاب، كان هذا الحوار:

■ كيف جاءت فكرة «كتاب النوم»؟

اهتمامي بالنوم يندرج ضمن اهتمام أوسع بــ «الأفعال الخاملة» أو غير المنتجة، مثل الضجر والتردد والتعب والاستماع. الأخير على سبيل المثال كان محور كتابي السابق «كيف تختفي». ما يثير انتباهي في تلك الأفعال، هو أنّها لا تصدر عن ذات تُثبت قوتها وتُعمِلُ إرادتها في محيطها، بل تحدُث لذات تكشف ضعفها وتتفاوض مع محيطها. لذلك، ينبع اهتمامي بهذه الأفعال من أنها تلمس هشاشة في بنية الذات يتم عادةً نفيها ووضعها بين أقواس، لصالح فكرة مهيمنة ترى الذات مركزاً فاعلاً دوماً، مكتفياً بنفسه أبداً. ولأن النوم هو درجة من الذاتية تقوم على التخلّي عن الذات من أجل الوصول إليها، فإنه يقدم بهذا المعنى نقداً للذاتية بوصفها قدرة على السيطرة والتحكم. إلى جانب سؤال الذاتية والهوية، هناك أيضاً سؤال آخر هام أسهم في تحديد مسار هذا الكتاب، وهو سؤال السياسة.
فقد بدأت العمل على هذا الكتاب في ربيع عام ٢٠١٣. كانت دولة مرسي آنذاك تتهاوى تدريجاً تحت وطأة احتجاجات شعبية واسعة، فيما ارتسمت في الأفق ملامح كارثة عاتية. بدأت العمل على هذا الكتاب إذن في لحظة واقعة بين عالمين: عالم يأفل غير مأسوف عليه وآخر يبزغ منذراً بكوارث لا تنتهي. وبينهما وقفنا جميعاً عاجزين رغم كل المحاولات التي كنا نقوم بها. إنها لحظة تشبه لحظة النعاس.
لحظة التوتر بين التعب الشديد من ناحية، ومقاومة النوم القادم لا محالة من ناحية أخرى. طبيعة هذه اللحظة شكلت نقطة الانطلاق، أو ما يشبه النداء، من أجل النظر في مشروع النوم. فشرعتُ في العمل، وأسهم تركيزي على الكتاب في حمايتي إلى حد كبير من الوقوع في أزمات عميقة خلال تلك السنوات المظلمة. في قلب ظلام تلك السنوات، كنت أغوص في تضاعيف النوم التي لا تنتهي. وكلما ازدادت الحلكة، كنت أظن أني وصلت إلى القاع، لأكتشف بعد ذلك أن هناك قاعاً أكثر عمقاً وظلمة.

■ واضح الاهتمام بالشأن السياسي في الكتاب. النوم وعلاقته بالثورة. هل كنت ترى النوم هزيمة؟ ضد الثورة؟

السوريالية أدركت مبكراً أن النوم ليس ضد الثورة، وإنما يقع في قلب معركتها ضد البرجوازية
هناك مجاز راسخ يربط بين الثورة واليقظة. يكفي أن يستدعي المرء مرادفات مثل النهضة، الصحوة، والانتفاضة حتى يلمح وجود علاقة بين فعل التغيير المسمى ثورة وبين اليقظة، ومن ثمّ علاقة مضمرة بين الاستلاب والنوم. هذه الملاحظة أثارت انتباهي بشدة، وجعلتني أطرح على نفسي هذا السؤال: ألا تعني الكتابة عن النوم في هذه اللحظة عودةً إلى الاستلاب، أو إعلاناً للاستسلام؟ ألا يكون الحديث عن النوم الآن هو فتّ في عضد الثورة؟ هنا أخذ العمل على الكتاب منحى جديداً، إذ ارتأى لي أني وصلتُ إلى سؤال جوهري. هذا السؤال لم يكن دافعاً للخوف أو النكوص عن المشروع، بل كان دافعاً لأخذه بجدية أكبر. فقد رأيت أنّ هذا السؤال يحمل في طياته أسئلة أخرى كثيرة حول طبيعة الفعل السياسي، وحول مسؤولية الذات، ومعنى الإنتاج، وعلاقة الكتابة بموضوعها... وشيئاً فشيئاً، فالنوم الذي يُختزل عادة في الانسحاب عن الواقع، أو التهويم في الأحلام، أخذ يكشفُ تدريجاً عن طاقة أخرى تسري داخله. الكناية عن الاستلاب بالنوم، وعن الثورة باليقظة لها ربما ما يبررها للوهلة الأولى. لكن التأمل في هذه الكناية يكشف أنها تنطوي على منطق ثنائي وإقصائي. فالإنسان الذي يصنع التاريخ وفقاً لهذا المنطق هو إنسان واع لا يهذي، لديه حكم راجح، وإرادة نافذة، مكتف بنفسه ومسيطر عليها. ماذا إذاً عن المريض؟ عن المتردد؟ عن النائم؟ عن المهووس؟ أين موقع كل هؤلاء من التاريخ؟ هل يشاركون في كتابة التاريخ من خلال نقده؟ أم أنهم منفيون تماماً خارجه؟ النوم لا ينفي احتمال الثورة، بل قد يكون أحد شروطها. فالنوم يحمل داخله إمكانية الاستيقاظ، إمكانية الولادة من جديد، إمكانية البداية من جديد. وكل نوم لا يفتح هذه الإمكانية ليس نوماً، وإنما غيبوبة أو موت. ما يمكن أن تحتاج إليه الثورة هو الاستيقاظ لا اليقظة. ومن دون المرور بالنوم، لن نصل إلى الاستيقاظ أبداً. اليقظة الدائمة ليست بالضرورة ثورة دائمة، وإنما يمكن أن تكون أيضاً سرنمة أبدية.

• تنتمي إلى جيل التسعينيات، وهو جيل ربما كان ضد القضايا السياسية الكبرى والإيديولوجيا. في «كتاب النوم»، نلاحظ اهتماماً خاصاً بالشأن السياسي. الكتابة عن الطاقة الثورية الكامنة في فعل يراه بعضهم سلبياً مثل النوم. هل يراجع الجيل موقفه من القضايا الكبرى؟
الطاقة الكامنة في النوم ليست اكتشافاً جديداً، فالسوريالية مثلاً أدركت مبكراً أن النوم ليس ضد الثورة، وإنما يقع في قلب معركتها ضد البرجوازية. في ما يخصني، فإنه رغم أنّ انكسار الثورة مثّل الظرف التاريخي للعمل على «كتاب النوم» كما ذكرت، إلا أن طموح هذه الكتابة لم يكن أبداً خلق مجاز لهذا الانكسار، أو الدعوة إلى الاستسلام. لم يكن هذا دافع الكتابة، ولا مصدر إلهامها. كما لم يكن هدفها الانتصار لعالم النوم في مقابل عالم اليقظة، ولا حتى الاحتفاء بالنوم بوصفه مقاومة، رغم كل الطاقة السياسية الكامنة في الكفّ عن الفعل الذي يمثله النوم. ما كانت تطمح إليه هذه الكتابة هو محاولة شق طريق آخر غير إنكار الهزيمة والتعالي عليها. طريق يحفز على إدراك أن الخروج من الهزيمة يستلزم الإقرار بما وقع. نحن بحاجة إلى أن نُحرر ما نقبض عليه، ونتحرر منه في الوقت نفسه، حتى يتسنى له أن يعود لنا، وأن نعود إلى أنفسنا، حتى يتسنى لنا أن ننهض ونستيقظ. وهذا بالضبط ما يفعله النوم، أي باختصار تفعيل إمكانية الاستيقاظ الكامنة في قلبه. ما كانت تطمح إليه هذه الكتابة هو تحرير الطاقة الكامنة في النوم بمعناه الأوسع، بوصفه نقداً لهذا المنطق الثنائي الذي يضع النوم في مقابل اليقظة، الليل ضد النهار، العمل ضد الكمون، الثورة ضد الاعتناء بالذات، الفرد ضد الجماعة.

■ درست الهندسة، فهل أثر ذلك في اللغة الصارمة الهندسية التي تبدو عليها كتابك؟ هل كنت مهتماً بالتصنيف؟ أو الشكل الذي سيخرج به الكتاب؟ هل كانت الفكرة في البداية أن يكون نصاً؟
ما شغلني في هذا الكتاب على مستوى الشكل، لم يكن تقديم منتج أدبي بالمعنى التقليدي، بقدر ما كان محاولة لاستخدام الأدب كمنهج للتفكير. أي الأدب كمنهج لا كمنتج. تراءى أنّ لدى الأدب الحساسية الكافية للتعامل مع مواضيع شديدة الهشاشة والانفلات، بما يمكنه من الاقتراب منها أكثر من العلوم الإنسانية الأخرى كالفلسفة وعلم النفس والفيسيولوجيا، لأنّ الأدب لا يُشَيئ موضوعه مُسمّراً إياه على طاولة التشريح، بل يطلق سراحه، ويشترط الابتعاد عنه حتى يستطيع أن يفكر فيه. الأدب يصلح إذن كمنهج للتفكير في النوم لأنه لا يرغب في جرّه نحو الضوء، لا يرغب في جعله موضوعاً لليقظة. شعرية الأدب تحديداً هي ما يقيه من أن يبحث في النوم عن نظرية تفسره، أو طريقة للسيطرة عليه. شعرية الأدب هي ما يمكّنه من الاقتراب من النوم في ظلمته من دون إيقاظه.

■ لماذا اخترت شكل الشذرات؟
بدا لي كأنسب شكل ممكن لالتقاط الحركة الداخلية للكتاب. بعد مرور بعض الوقت في العمل عليه، أدركت أنه سيكون كتاب شذرات. الشذرات شكل أدبي مثير للاهتمام. فهي دائماً في حالة جمع، إذ لا يكتب المرء شذرة واحدة، بل يكتب دائماً شذرات عديدة، أو جماعة شذرية. والوحدة التي تنشأ عن هذا الشكل الجماعي، ليست وحدة الكل الذي يتكون من الأجزاء، بل وحدة تتسم بالنقص والانفتاح الدائمين. كل شذرة لا تُكمل فكرة سابقة بل تنقلها إلى مدار أكثر دقة وكثافة. كل شذرة تبدأ من جديد، تسير في اتجاه جديد. وما يبدأ ككتاب عن النوم، يتغير بمضي القراءة ليصبح كتاباً عن الفقد، عن الموت، عن الاستيقاظ، عن الأدب.

■ تقول «هناك قرابة روحية تجمع بين كتابة الشذرات والطرب». هل تقسيم الكتاب بحثاً عن الإيقاع، عن اللااكتمال؟
نعم هناك شيء يتعلق بالطرب في الشذرات. هناك شيء طَرِب في تكرار معالجة الفكرة نفسها في أكثر من شذرة، كل مرة بشكل مختلف. هناك شيء طَرِب في التفكير من خلال الشذرات، في انفتاحها وعدم اكتمالها، مقارنةً بالتفكير المُنظّم والمنطلق من مرجعيات نظرية متماسكة، ويمكن تشبيهه بالموسيقى الفيلهارمونية، في تركيبها وانتظامها. وهنا لا أقصد بالطبع أي حكم قيمة أو مفاضلة هويّاتية.
■ يحضر داخل النص أصدقاء راحلون كأنهم حلم. تحضر نادين شمس، وهاني درويش. اخترت أن تنهي الكتاب بالحلم. هل ترى الغياب أو الموت مجرد نوم طويل؟
أثناء العمل على الكتاب، احترتُ طويلاً أمام سؤال الأحلام. بالرغم من أهميتها، إلا أني اعتقدتُ أنه لا يوجد ما يسوغ استخدامها، طالما أنّ الكتاب يرفض الاختزال المعتاد للنوم في الأحلام. لكن هذه النتيجة لم تكن مرضية تماماً بالنسبة إليّ. ووقفت طويلاً حائراً أمام هذا السؤال. وفي النهاية، ارتحت إلى ضم مجموعة معينة من الأحلام، وهي الأحلام التي تخص من رحلوا، سواء أكانوا أفراداً أم أماكن وأزمنة لسببين: الأول أن الأحلام بشكل عام هي جزء لا يمكن إغفاله من النوم. والثاني أنّ تلك الأحلام تحديداً تمسّ سؤالاً شغلني طوال الكتاب، هو سؤال الزمن.
النوم ينطوي في ظني على سؤال جوهري حيال الزمن، سؤال يتعلق بما لم يعد هناك. في إغفاءة النوم، يستيقظ الماضي بكل سكانه، لا كذكرى، أو كشاهد، وإنما كإمكانية. من رحلوا لا يرغبون منا أن نقيم لهم نصباً تذكارياً لتقديسهم، ولكن أن نتركهم يعيشون وسطنا، وأن تلامس طاقتهم واقعنا.
من زاوية الحلم يظهر لنا أن النائم ليس ميتاً، ولا الميت نائماً. فالنائم يستيقظ بعد حضرة الموت بحلم جديد، على خلاف الميت الذي لا يستيقظ أبداً. الموت إذن ليس مرادفاً تاماً للنوم، لكن النوم أضحى المكان الأخير الذي بقي للموت لكي يحضر في حياتنا اليوم، لأن اليقظة تنفيه دائماً إلى خارج أسوار الواقع.

لدى فالتر بنيامين ما يشبه الإصرار على عدم تقديم أي تنازلات جمالية، حتى وهو منهمك في صياغة فكرة سياسية مركبة


■ ترجمت بعض المقالات لفالتر بنيامين، وترى أن كتاباته ملهمة ولكنها ليست كتالوغاً. ما الذي يعنيه لك بنيامين؟
لديّ بالفعل اهتمام كبير بكتابات فالتر بنيامين. وقمت بمحاولات لترجمة عدد قليل من نصوصه. كتابات بنيامين مهمة على أكثر من صعيد. لكن إذا أردت أن أركز على صعيد واحد أشعر أنه كان ملهماً جداً بالنسبة إلى هذا الكتاب، فهو أن كتابات بنيامين لا تفرّق بين ما هو شعري وبين ما هو سياسي أو فكري. الكثير من نصوص بنيامين يمكن تشبيهها بأنها بلورات مركزة، لا تكاد تعرف فيها أين ينتهي الفلسفي وأين يبدأ الشعري. أين تعمل السياسة وأين يتفتح الجمال. لدى بنيامين ما يشبه الإصرار على عدم تقديم أي تنازلات جمالية، حتى وهو منهمك في صياغة فكرة سياسية مركبة. أو ربما يمكن القول إن عملية التفكير نفسها لدى بنيامين هي في جوهرها عملية جمالية. في مقدمتها لكتاب «إضاءات» الذي يضم مجموعة من مقالات بنيامين، كتبت حنه أرندت أن بنيامين يفكّر شعرياً، لكنه لم يكن لا شاعراً ولا فيلسوفاً.

■ كيف ترى الثورة؟ ما جرى طوال السنوات الست في مصر وتونس؟ كيف تتابع الأمر من بعيد؟ هل ترى أن هناك ثورة في الكتابة توازي ما حدث؟
كان سؤال تأثير الثورة على الكتابة سؤالاً يشغل الجميع غداة الثورة المصرية. من ناحيتي، أنا لا أعتقد بوجود رابط سببي بين الاثنين. بالتأكيد، هناك تأثيرات متبادلة بين الأدب والسياسة، لكن هذه التأثيرات أشدّ تعقيداً من علاقة السبب بالنتيجة. إذا نظرنا إلى تاريخ الأدب، سنجده حافلاً بثورات تخصه. ثورات حقيقية ولها تبعات كبيرة. أفكر مثلاً في الثورة الرومانسية، أو الثورة السوريالية. وبالتأكيد، تحمل تلك الثورات الأدبية أصداء أو إرهاصات تغيرات اجتماعية وسياسية، لكنها تنبع عضوياً من الحركة الداخلية للأدب. يُضاف إلى ذلك أنّ التناول الفني المباشر للثورة، يُسيء كثيراً للأدب وللثورة، ولا يؤدي إلى أي تغيير على الصعيد الفني. الأمور بحاجة إلى وقت، ومن الأفضل لكل من الثورة والأدب ألّا يُحشرا في علاقة سببية ضيقة.

■ اخترت للكتاب فى البداية عنوان «حديقة النوم المعلقة» ثم تراجعت إلى «كتاب النوم»، لماذا حدث هذا التغيير؟
أنا لا أزال أحب عنوان «حديقة النوم المعلقة». لكني شعرت في لحظة أنه ربما يكون عنواناً شعرياً أكثر من اللازم. لذلك فضلت الحياد الكامن في تقليد صياغة العنوانين من خلال علاقة الإضافة مع كلمة كتاب مثل كتاب الموتى، كتاب الشفاء، كتاب السماع.

■ الإقامة بين ثقافتين، لغتين هل لها أثر في كتابتك؟ هل تغيرت رؤيتك للكتابة مع إقامتك في برلين؟ وهل تعتقد أن هذا جعلها مختلفة قليلاً عن مجايليك، وكتابها في مصر؟
الكتابة تتأثر بلا جدال بشروط الحياة الموضوعية، وتحمل آثاراً واضحة أو خفيّة لهذه الشروط. لكني لا أعرف إلى أيّ مدى نسبة التأثير. كذلك لا أعتقد أن كتابات مجايليّ في مصر يمكن وضعها كلها في سلة واحدة. هناك تنوع كبير في تلك الكتابات اليوم. من ناحية أخرى، لا أعتقد أن الكتابة تقتصر على حوارها مع مجايليها فحسب، بل تدخل في حوارات متعددة ومتنوعة مع كتابات أجيال أخرى. وبالطبع لا يحتاج المرء بالضرورة إلى أن يعيش خارج مصر لكي يختبر الغربة والاغتراب. في ما يخص تجربتي، أعتقد أن خبرة العيش في لغة مختلفة عن لغة الكتابة هي خبرة مهمة. لكنها تنطوي أيضاً على مصاعب كثيرة. فالجدل بين اللغات، والعبور بينها، هو أمر بالغ الإفادة والإلهام، لكنه ينطوي أحياناً على لحظات كابوسية، لا يكاد يعرف المرء فيها على أي أرض يقف.

■ ما هي الثوابت والمتغيرات في رؤيتك للكتابة منذ تجربة «خيوط على دوائر» وحتى «كتاب النوم»؟
المتغيرات في الكتابة كثيرة، منها طريقة السرد، دور السيرة الذاتية، استعمال التأليف أو الـ fiction، درجة اللغة، نوعية الموضوعات، درجة التحرر أو التقيد بالجنس الأدبي... أما الثابت فهو الانشغال بالكتابة.

■ من الكتّاب الذين قرأتهم بأكبر قدر من المتعة، ومن أصحاب الأثر الأكبر عليك؟
سؤال صعب، ربما لأنّ لحظة البدايات بعيدة عني الآن، أو جرت في النهر مياه كثيرة كما يقولون، لكن في قلبي مكان خاص لكتاب مثل يحيى حقي، فؤاد حداد، إبراهيم أصلان، محمد صالح، يحي الطاهر عبد الله، وغيرهم. أشعر بامتنان أيضاً للقدر الذي جعلني معاصراً للحظة الشعرية في التسعينيات، كان تأثيرها حاسماً بالنسبة إليّ في فهم الشعر ليس بوصفه قصيدة وإنما كحاسّة وطريقة في التفكير. برأيي، فهذا التأثير لعب دوراً مهماً في ما بعد، عندما أخذت كتاباتي في السنوات الأخيرة منحى جديداً، وبدأت تتحرر من شكل القصة القصيرة. من الممكن أن يقول أحدهم إنّه ظهر خط أو منحى جديد في كتابتي يميل إلى الشذرية ويبتعد عن السردية. منحى يتعامل مع الكتابة بوصفها وسيطاً للتأمل والتفكير وليس فقط للحكي. باختصار منحى أكثر شعرية ربما. كان هذا التغيير وليد لحظة أزمة مررت بها، وشعرت أنني غير راضي عن شكل الكتابة الذي تعودت عليه، وإن هذه الطريقة في الكتابة بدأت تستنفد طاقتها. لم يكن هذا قراراً بالانقطاع تماماً عن الكتابة السردية، وإنما بحث عن ماهية الكتابة الذي يمكن أن يكون له معنى مختلف فى هذه اللحظة. وبالفعل أعمل منذ بضع سنوات على مجموعة قصصية جديدة، وأتمنى أن تكون جاهزة قبل نهاية العام. طموحي هو إنجاز مجموعة قصصية بالمعنى التقليدي. قصص قصيرة متنوعة ومنضبطة السرد، ومخلصة تماماً للسرد والحكي. أتمنى أن لحظة الأزمة التي أنتجت منحى كتابة جديداً، يمكن أن تنتج أيضاً كتابة سردية جديدة!