خلافاً لوجهات نظر كثيرة تتعلّق بحياة وانتحار سيلفيا بلاث (1932 ــ 1963)، تلجأ كوني بالمن في روايتها «أنت قُلتَ» (2015) التي ترجمت أخيراً («الهيئة العامة المصرية للكتاب» ــ ترجمة لمياء المقدم) إلى الضفة الأخرى المضادة لتسلّم دفة السرد لشريكها تيد هيوز المتهم بأنه كان وراء انتحارها، مستعيداً صوته بعد صمتٍ طويل. هكذا تفكّك الروائية الهولندية أيقونة الشعر الأميركي على مهل، بسردٍ مضاد للمدوّنات النسوية التي وضعت صاحبة «عبور المحيط» في مكانة مرموقة أقرب إلى التقديس. ههنا تذهب لغة الشاعر نحو شعرية متدفقة تنطوي على وقائع ووثائق وكتب تناولت حياة هذين الشاعرين المارقين، وكيف انتهت بهما الأقدار على هيئة فضيحة متنقّلة اقتات عليها كتّاب سيرتهما طويلاً.
لا تشي قصة الحب العاصفة التي جمعت بين هذين العاشقين بالنهاية المفجعة التي انتهت إليها «عندما نلتقي، لم نكن نتعانق، كنّا نهجم على بعضنا، نكاد نشتعل من الرغبة والشهوة والسعادة. أنزع رباط شعرها، وألقي به بعيداً، أقتلع قرطيها الفضّيّين من أذنيها، وأمزّق ثوبها عنها، كمن يرغب في أن يعريها تماماً من أي زيف أو تحضّر، أو لياقة. كان حباً حقيقياً جداً: شيئاً يشبه الافتراس». لكن هذه الحميمية ستتلاشى تدريجاً تحت وقع الغيرة والشك والخيبة. كانت سيلفيا مهووسة بالشعر. فراشة بجناحي المجاز، امرأة هشّة وغاضبة وهستيرية. تحب بعنف وتكره بعنفٍ أشد، تسكنها روح سوداء بتأثير فقدانها والدها وهي طفلة. الموت ثيمة أساسية في أشعارها إذاً.

ألم تقل يوماً «الموت حرفة وأنا أتقنها بشكل استثنائي»؟ لن تؤجل جنازتها طويلاً، فقد أعدت طريقة موتها بدقّة، على عتبة الثلاثين، في صباح شتائي كئيب من عام 1963، إذ اختارت أن تنتحر مختنقة بفرن الغاز، بعد محاولة سابقة. كان على تيد هيوز المفجوع بموت طليقته، أن يقف كدريئة أمام عشرات السهام المسمومة، إثر اتهامه بمسؤوليته عن انتحارها، من أصدقائه قبل أعدائه. لكنه صمت طويلاً، إلى أن كتب متأخراً «قصائد عيد الميلاد» موضحاً الألغاز التي أحاطت علاقته بسيلفيا وأسرار حياتهما المشتركة، ونوبات اكتئابها التي كانت تثقل حياتهما، وكيف كان يحتمل جنونها وشكوكها واضطراباتها بصمت.
على الأرجح، فإن كوني بالمن وجدت مادة دسمة لبناء حكاية تراجيدية مكتملة. عدا رواية «الناقوس الزجاجي» التي كتبتها سيلفيا بلاث بما يشبه السيرة الذاتية، هناك أيضاً اعترافات تيد هيوز بعلاقاته النسائية الملتهبة، واقتحام آسيا فيفل حياته، ما أدى إلى انفصاله عن زوجته التي غرقت في هوس تدميري سيقودها بعد أقل من سنة إلى الانتحار. لا يبدو تيد هيوز وفقاً لمتخيّل كوني بالمن مذنباً أو خائناً، بقدر ما هو ضحية لشاعرة مريضة نفسياً، على عكس ما أشيع عنه. لذلك تمنحه الروائية حرية كاملة بنفي معظم ما قيل عنه «بالنسبة للكثيرين نحن‮ ‬غير موجودين إلا في الكتب‮. ‬أنا وزوجتي‮.

تفكّك أيقونة الشعر الأميركي بسردٍ مضاد للمدوّنات النسوية التي قدّستها
‬تابعت،‮ ‬على مدى الأعوام الخمسة والثلاثين الأخيرة،‮ ‬بكثير من العجز والاستنكار،‮ ‬كيف تعفنت حياتها وحياتي تحت طبقة من المغالطات والشائعات،‮ ‬والقصص الملفّقة والشهادات الكاذبة والأساطير والخرافات والهراء‮. ‬ورأيت بعينيّ‮ ‬كيف تم تحوير شخصيتينا المركبتين إلى شخصيتين عاديتين،‮ ‬بملامح باهتة وبسيطة صُنِعت خصيصاً‮ ‬لإرضاء نوع معيّن من القراء الطامحين للإثارة‮: ‬هي المقدسة الهشّة،‮ ‬وأنا الخائن القبيح‮»‬.
كنّا نتوقّع أن يتناوب العاشقان في تدوين سيرتهما من موقعين مختلفين، لكن تيد هيوز سيقبض على الوقائع إلى آخر سطر في الرواية، نابشاً تفاصيل رحلته مع زوجته، من دون أن ينكر شغفه بأخريات، وبحاجته إلى أن يكون طائراً حرّاً، بعيداً عن الدمار الذي خلّفته حبيبته في روحه، ونوبات الجنون التي أطاحت بحبهما، وصبره على سلوكياتها الغرائبية. كانت سيلفيا تعيش نزيفاً شعرياً متواصلاً، بتأثير شاعر آخر هو ييتس بمناخاته السوداوية التي ستقودها لاحقاً إلى انتحار محقّق، كمحصلة لصدمات متتالية، وخرافات كانت تؤمن بها، فيما يقول تيد هيوز إنّه على عكسها، لم يعبأ بإدراج العالم الخارجي على تجربته الشخصيّة إلا متأخراً، ليكتشف أهمية الحواس في ترميم المجاز الشعري، وضرورة نسف الرموز والغيبيات، والذهاب إلى الحدود القصوى للذات بطيش لم يعشه قبلاً بصحبة آسيا فيفل «أريد بقوة أن أترك نفسي لهذه الشاعرة الغجرية الشرسة أن تمزّقني بالكامل، والدخول في عالمها المظلم الداكن».
أدار هيوز ظهره أيضاً للشائعات التي كانت تتناول سيرته «بالنهش والتقطيع» ملتفتاً إلى استعادة إيقاعه الداخلي فكرياً وروحياً، ووصل ما انقطع مع طليقته وطفليه، بعد انتقالهم من الريف إلى لندن، إلا أن صدمة رفض نشر أشعار سيلفيا لدى إحدى دور النشر الأميركية أصابها بانتكاسة جديدة، مما عجّل بقرارها الانتحار «قضيت الليلة الأولى في فراشها أتشمّم الأغطية والوسائد، كثعلب صغير فقد أمه»، و«قرأت قصائدها المظلمة التي كتبتها بالدم، والتي كانت تشبه عِرقاً نازفاً يتفتح بمجرد أن تلمسه». لكن هذه الحميمية لم تنقذ تيد هيوز من الأقاويل المغرضة إلى آخر أيامه «كنت الرهينة الصامتة داخل أسطورتها، مسجوناً ومقيّداً في ضريح، حيث يتوافد الزائرون لمشاهدة الآثار المتبقّية من زواج تراجيدي». الآن علينا أن ننتظر زمناً إضافياً لمعرفة ما بقي في جعبة الشاعر المفجوع، إذ ترك صندوقاً صغيراً مقفلاً بالشمع الأحمر، وأوصى ألا يُفتح قبل عام 2023، ربما سيضيء أسراراً أكثر إثارة بالنسبة إلى كتّاب المذكرات.