في روايته «شامة على رقبة الطائر» (منشورات المتوسط)، يعيد الروائي الفلسطيني فجر يعقوب تشكيل سنوات الحرب الأهلية اللبنانية، متخذاً من «الانشطار» الذي يعيشه ضحايا الحروب والمذابح سمةً مسيطرة على مستويات النص المتعددة. أخرج الناقد السينمائي رؤيته السردية في مشاهد متقطعة، كما لو أنّ الرواية جزء من فيلم يتميّز بأداء عالٍ للتفاصيل، لكن وفق بنية نصيّة مفككة، ومصاغة بلغة رهيفة ومكثفة. أمر يجعل قارئه يترقّب المشهد التالي، ثمّ ما يليهِ، حتى نهاية الرواية التي ترتسم بالتدريج على هيئة انطباعات برّاقة حيناً، وغامضةً أحياناً.
تحكي الرواية قصة الرقيب رشيد عثمان، الذي يخدم في ثكنة مقامة في قرية مسيحية، كان أهلها قد استسلموا لفكرة وجود «الغرباء» بينهم. تبرز مسألة التأقلم لدى الغرباء أنفسهم، وقصة رشيد مثال ثري لتلك الغربة الإنسانية. سيدفعه الحصار في الثلج للتفكير عن مغزى وجوده في القرية البقاعيّة. تظهر «كريستينا» مبرراً لذلك الوجود، أو بمعنى آخر، تأجيلاً لاستحقاق ذلك السؤال.

حتى أنّه سيتمنى إطالة الحرب حتى يبقى بالقرب من كريستينا أطول فترة ممكنة. تُعرف كريستينا باسم يأخذ بعداً دلالياً، هو «الأرملة السوداء». يرمي الكاتب على عاتق قارئه الفهم العسير للعلاقة بين الأرملة السوداء وذكورها الكثيرين. تقود رشيد إلى حظيرة الخنازير متى ما رضيت عنهُ، وسيشكل، هو، الحزام الممغنط حول وسطها متى ما أرادت أن تتزنّر بهِ، في حين تكون مقبرة عائلتها هي المكان الأثير لديها في انتهاك لطمأنينة الموتى. يأخذ شكل العلاقة بين رشيد والأرملة السوداء شكل «نزال عاطفي أجوف»، ما يدفع بفكرة جهنميّة للبزوغ في مخيلة رشيد تقضي بنبش مقابر العائلة دون اكتراث بتفسير تلك «الرغبة الجامحة» التي ستضاف إليها آثار الفودكا الممزوجة بعصير البندورة.

يعيد تشكيل سنوات الحرب الأهلية اللبنانية

كانت كريستينا واعية إلى أنّها تقيم علاقةً مع «منبوذ». بالتالي، كانت قادرة على «تبديل رأس الضحية» في امتثال للقبها. وفي الوقت ذاتهِ، كان رشيد واعياً، بأنّه في حياة متسرعة مثل حياتهِ خاضعٌ لـ «رغباتٍ ناقصة»، لا يملك حيلةً في وجه سؤال أكبر من وعيهِ؛ حول وجودهم وسط مجموعة من «النسوة المسكينات». يخرج الكاتب بطله من ذلك المأزق عبر حدث حقيقي وهو الأبرز في الرواية. تُشّن غارة إسرائيلية على موقع الجيش، ما يقسم الرواية إلى نصفين ما يلبثان أن يتباعدا.
يعيش رشيد المهووس بمطاردة الكلاب السلوقية لهُ في هروب متواصل إلى الأمام. تندلق حياتهُ أمام ناظريه. ينقذه خروجه مع المجرفة إلى مكان دفن الكلب السلوقي من الغارة، وتحرره تلك الصدمة من قيد الأرملة السوداء. إنّ الغارة التي لم تقتله، قد قتلتها في نفسهِ مثلما قتلت أشياء كثيرة وجعلت أموراً تنبعث من ذاكرة بعيدة عن حربٍ الشعارات، التي جاءت بالمقاتلين بحثاً عن الرزق، ثُمّ تلاشوا مع الشعارات بعد ذلك. تتفتح ذاكرة رشيد على مشاهد ماضية؛ بدءاً من أبيه الذي عرف ضحكة واحدة في حياتهِ، وقد أودت بهِ في باحة الدار، ومنذ خروجه من حيفا، لم يعرف سوى البكاء، حيث كانت الدموع أرخص ما يمكن العثور عليهِ وصولاً إلى جدتهِ، التي انكسرت العصا القاسية التي تتوكأ عليها وسقطت على الأرض. ينقلنا الكاتب إلى عالم متوارٍ في حاضر رشيد، ليكون تفجير الموقع العسكري تفجيراً للرواية ومقولاتها.
يلجأ الكاتب إلى قصة غرامية ثانية كي يبني عليها تداعيات رشيد عثمان. ستبرز سهى دجه براييل ماثلة في مناماتهِ، قادمةً من حكايات جدتهِ عنها. بعدما نبش قبر عائلة كريستينا خاضعاً لرغبة تحرر من عقد غير مدركة. سيفرّ من الخدمة، ويتتبع آثار سهى في شوارع دمشق، في حين ستكون سهى في بلاد بعيدة تنجب الأولاد وتستمر بالعيش. كما لو أنّ العاطفة هي شأنّ المُترّصد التي لا يعرف عنها «المرصود» شيئاً. يجعل الكاتب من التقاطع بين أخيلة الطفولة وأخيلة المستقبل مساحة سرديّة يطلق فيها بطله، ويعرّف الراوي تلك المساحة على أنّها «الطريق إلى الوهم» الذي يعبره رشيد إلى مصيره الدموي، ضائعاً في مصائر تتفاعل في ظروف الحرب وسنواتها الطويلة التي شكلت خلفيّة مؤسفةً لحياة أجيالٍ كاملة.
شكلت الحاجة السرديّة الآلية التي تبرز فيها الشخوص إلى الصفحات. لقد كانت الكائنات تنبثق متى ما احتاجتها القصة. وبدا الكاتب مهتماً بإبراز التقاطعات بين حياة الوالد والابن والعلاقة بينهما. في الوقت عينهِ، اعتبر الراوي، أنّ البكاء على الأطلال «ثيمة شعرية»، إذ لا يمكن تصديق دمعة تسيل على الأطلال. فقد مضت حياة الأب في البكاء وحياة الابن في ترميم ثقوب ذاكرة مرهقة، كونها تمثل ذاكرة جمعيّة وفق الموضوع الذي تصدى لهُ الكاتب لفلسطيني خدم في الجيش السوري في حرب لبنان، مجرّباً ترك شيء من الحنين في كلّ مكان ذهب إليه بطلهُ. لقد بدا فجر يعقوب صياداً لهذا الحنين، أو أنّه منصاع لثقافةٍ أنجبت ذلك الحنين.