جرّبوا أن تفتحوا عشوائياً كتاب ريموند كارفر (1938-1988) «ما نتحدّث عنه عندما نتحدّث عن الحب»، صفحة 31 مثلاً ستقرأون: «في ذلك الصباح، كانت تصب الويسكي على بطني وتبدأ بلعقه. بعد الظهر، كانت تحاول أن ترمي بنفسها من النافذة». بكلمات زهيدة مُسنّنة، ينحت كارفر كائنات مترنّحة، بلا عمل أحياناً، بلا آفاق، ولا حس أخلاقي. يتعقب مصائر أشخاص من الطبقة الوسطى الأميركية، يعتمدون على الهوكي والسخرية وفضائح النجوم كي يعطوا معنى لحياتهم، لكنهم لا يفقدون الأمل في الإفلات من مصائرهم العادية. هولي عاملة نظافة في «موتيل»، تشرب كأساً أخرى من السكوتش كي تفهم أن «هذه ليست حياة» ومن ثم يصبح كل شيء مسبّباً للانهيار: برّاد معطّل، وجبة مع زميل عمل، بائعة فيتامينات تذرع الشارع جيئة وذهاباً... لكن لا شيء يحدث في قصص كارفر. وحين تدهس سيارة طفلاً يوم عيد ميلاده، ويلزم والداه القلقان سريره في المستشفى ناسين قالب الحلوى في المخبز، يتصل صاحب المخبز بالبيت ويترك رسائل غاضبة، هذا كل ما يحدث. أسهم كارفر في إحياء وتنشيط القصة القصيرة في الثمانينيات، قبل أن يصبح هو الآخر ضحية زجاجات السكوتش الفارغة ويصاب بسرطان الرئة. كتابه الأول «أرق الشتاء» صدر عام 1970، تلته مجموعة قصصية عام 1976 بعنوان «اصمت من فضلك» رسّخت مكانته كأحد أهم كتّاب القصة القصيرة في القرن العشرين وأظهرت النمط الجوهري القوي الذي بات يعرف بـ «الكارفري» مذكّراً بأسلوب جون شتاينبيك وإرنست همينغواي. الصوت المقتصد، المقتضب، المحايد عاطفياً والنبرة المحرّرة من الأوهام، نجدها أيضاً في ثماني مجموعات شعرية آخرها «سرعة الماضي الصاعقة» (1986) و«حتى الشلال» (1989). «اِفْعَلي ذلك من أجلي هذا الصباح/ أسدِلي الستار وعودي إلى السرير/ أهمِلي القهوة./ سنتظاهر/ بأننا في الخارج، وعشّاق».



في المطبخ، صبَّ كأساً آخر ونظر إلى أثاث غرفة النَّوم في حديقته الأمامية. كانت الحشيَّة مجرَّدة من الملاءات المخططة كالحلوى والموضوعة إلى جانب وسادتين على خزانة الأدراج. فيما عدا ذلك، بدت الأشياء كما كانت في غرفة النوم ــ طاولة جانبية ومصباح للقراءة إلى جانب الجهة التي ينام عليها من السَّرير، طاولة جانبية ومصباح للقراءة إلى جانب الجهة التي تنام عليها من السَّرير.

جهته، جهتها.
تفكَّر في هذا وهو يرتشف الويسكي. كانت خزانة الأدراج تبعد بضعة أقدام عن قدم السَّرير. كان قد أفرغ الأدراج في صناديق من الورق المقوَّى ذلك الصَّباح، وكانت الصَّناديق في غرفة الجلوس. كان هناك سخَّان نقَّال بالقرب من خزانة الأدراج. وعند قدم السَّرير كرسي من الخيزران ووسادة مزخرفة. أخذ طقم المطبخ المصنوع من الألمنيوم الملمَّع حيِّزاً من الدَّرب. غطَّى مفرش عريض جداً من قماش الموسلين الأصفر الطَّاولة، وتدلَّى على كل جانب من جوانب الطاولة، كان هدية. على الطاولة سرخس مزروع في أصيص جنباً إلى جنب مع صندوق يحتوي على الأواني الفضية ومسجِّلة، هدايا أيضاً.
وضع جهاز تلفزيون كبير من الطَّراز الشبيه بخزانة على منضدة قهوة، وكان يوجد على بعد بضعة أقدام منه أريكة وكرسي ومصباح أرضي. كان المكتب مدفوعاً نحو باب المرآب. كان هناك بعض الأواني على المكتب، مع ساعة جدارية ولوحتين مؤطرتين. كان هناك في الدَّرب أيضاً صندوق يحتوي على فناجين وكؤوس وأطباق، كل قطعة منها ملفوفة بأوراق الصُّحف. كان قد أخرج الملابس ذلك الصَّباح وفيما عدا الصَّناديق الثلاثة في غرفة الجلوس، كانت جميع الأشياء خارج المنزل. كان قد مدَّ سلكاً وتم وصل كل شيء. عملت الأشياء بنفس الطريقة التي كانت تعمل فيها عندما كانت في الدَّاخل.
تريثت سيارة بين الحين والآخر وحدَّق الأشخاص منها. لكن لم يتوقف أحد.
خطر له أنه لن يتوقف أيضاً.
قالت الفتاة للفتى: «لا بدَّ أن تكون هذه الأشياء في الحديقة معروضة للبيع».
كان كل من الفتاة والفتى يؤثثان شقَّة صغيرة.
قالت الفتاة: «لنرَ أي ثمن يطلبون مقابل السَّرير».
قال الفتى: «والتِّلفاز».
قاد الفتى السَّيارة باتجاه الدَّرب وتوقَّف أمام طاولة المطبخ.
ترجلَّا من السَّيارة وبدأا يستطلعان الأشياء، تلمّست الفتاة مفرش الموسلين، الفتى يشغِّل الخلاط ويدير القرص نحو «الفَرم»، تحمل الفتاة موقد تسخين الطعام الصَّغير، يشغِّل الفتى التلفاز ويجري عمليات الضَّبط. جلس على الأريكة ليشاهد. أشعل سيجارة، وأجال بصره من حوله، ونقف عود الثَّقاب على العشب. جلست الفتاة على السَّرير. خلعت حذاءها واستندت إلى الوراء. خيِّل إليها أنها رأت نجمة المساء.
قالت: «تعال إلى هنا، جاك. جرِّب هذا السَّرير. هاتِ واحدة من تلك الوسائد».
قال: «كيف هو؟».
قالت: «جرِّبه».
نظر من حوله. كان المنزل مظلماً.
قال: «أشعر بالسُّخف. من الأفضل أن نرى إذا كان يوجد أحد في البيت».
نطَّت على السَّرير.
قالت: «جربه أولاً».
استلقى على السَّرير ووضع الوسادة تحت رأسه.
قالت الفتاة: «كيف يبدو؟».
قال: «يبدو متيناً».
التفتت جانبياً ووضعت يدها على وجهه.
قالت: «قبِّلني».
قال: «لننهض».
قالت: «قبِّلني».
أغمضت عينيها. عانقته.
قال: «سأرى إذا كان يوجد أحد في المنزل».
لكنه استقام في جلسته ولزم مكانه، يتظاهر بأنه كان يشاهد التلفاز.
أضيئت المصابيح في المنازل على امتداد الشَّارع.
قالت الفتاة: «أما كان له أن يكون مسلياً إذا...» كشَّرت ولم تنهِ كلامها.
ضحك الفتى، ليس لسبب وجيه. ودون سبب وجيه أضاء مصباح القراءة.
طردت الفتاة بعوضة، وعند ذاك نهض الفتى وسوَّى قميصه داخل بنطاله.
قال: «سأرى إذا ما كان هناك أحد في البيت. لا أظن أنه يوجد أحد. لكن إذا كان، سأرى كيف تسير الأمور».
قالت: «مهما طلبوا، لا تدفع أكثر من عشرة دولارات. إنها دوماً فكرة سديدة. وعدا ذلك لا بد أن يكونوا يائسين أو شيء ما».
قال الفتى: «إنه تلفاز جيد للغاية».
قالت الفتاة: «اسألهم عن الثَّمن».
سار الرجل على الرَّصيف يحمل في يده كيس مشتريات. معه شطائر وبيرة وويسكي. رأى السَّيارة في الدَّرب الخاص بمنزله والفتاة على السَّرير. رأى التلفاز يعمل والفتى على الشُّرفة.
قال الرجل للفتاة: «مرحباً. وجدتِ السَّرير. هذا جيد».
قالت الفتاة: «مرحباً» ونهضت. مهَّدت السَّرير وأضافت: «كنت أجربه فقط. إنه سرير جيد جداً».
قال الرجل: «إنه سرير جيد». وضع الكيس وأخرج البيرة والويسكي.
قال الفتى: «اعتقدنا أنه لا يوجد أحد. نحن مهتمان بالسَّرير وربما بالتلفاز والمكتب».
«كم تريد ثمناً للسرير؟».
قال الرجل: «كنت أفكر بخمسين دولاراً مقابل السَّرير».
سألت الفتاة: «هل توافق على بيعه بأربعين؟».
قال الرجل: «حسنًا سآخذ أربعين».
أخرج كأساً من الصُّندوق. نزع الصحيفة عنه. وفتح سدادة زجاجة الويسكي.
قال الفتى: «ماذا عن التلفاز؟».
«خمس وعشرون».
قالت الفتاة: «هل تقبل بخمسة عشر؟».
قال الرجل: «لا بأس بخمسة عشر. يمكنني القبول بخمسة عشر».
نظرت الفتاة إلى الفتى.
قال الرجل: «أيها الولدان، هل تريدان شراباً. الكؤوس في الصُّندوق. أنا سأجلس. سأجلس على الأريكة».
جلس الرجل على الأريكة، استند إلى الوراء، وحدَّق بالفتى والفتاة.
عثر الفتى على كأسين وصبَّ الويسكي.
قالت الفتاة: «هذا يكفي. أظن أني أريد أن أضيف الماء إلى كأسي».
سحبت كرسياً وجلست إلى طاولة المطبخ.
قال الرجل: «يوجد ماء في الحنفية هناك».
«أدر تلك الحنفية».
عاد الفتى بالويسكي بعدما أضاف إليه الماء. نظَّف حنجرته وجلس إلى طاولة المطبخ. كشَّر. لكنه لم يشرب شيئاً. تدافعت طيور في الجو سعياً وراء الحشرات، طيور صغيرة تحركت بسرعة قصوى.
حدَّق الرجل بالتلفاز. أنهى شرابه وصبَّ آخر، وعندما مدَّ يده ليشعل المصباح الأرضي وقعت سيجارته من بين أصابعه وحطَّت بين الوسائد.
نهضت الفتاة وساعدته على ايجادها.
قال الفتى للفتاة: «إذن ماذا تريدين؟».
أخرج الفتى دفتر الشِّيكات وألصقه بشفتيه كما لو أنه يفكر.
قالت الفتاة: «أريد المكتب. كم ثمن المكتب؟».
لوَّح الرجل بيده إزاء هذا السُّؤال السَّخيف.
قال: «قولي رقماً».
نظر إليهما حيث هما جالسان إلى الطاولة. في ضوء المصباح، كان هناك أمر في وجهيهما. لم يعرف بالضَّبط فيما إذا كان لطيفاً أو كريهاً.
قال الرجل: «سوف أطفئ هذا التلفاز وأشغِّل المسجلة. هذه المسجلة للبيع أيضاً. رخيصة. قدم لي عرضاً».
صبَّ المزيد من الويسكي وفتح علبة بيرة.
«كل شيء للبيع».
مدَّت الفتاة كأسها وصبَّ الرجل الشَّراب.
قالت: «شكراً لك. أنت لطيف للغاية».
قال الفتى: «سوف تثملين. لقد أسكَرتني». رفع كأسه وهزَّه.
أنهى الرجل شرابه وصبَّ آخر، ثم وجد صندوق التَّسجيلات.
قال الرجل للفتاة: «انتقِ شيئاً» ومدَّ التسجيلات نحوها.
كان الفتى يكتب الشِّيك.
قالت الفتاة وهي تلتقط شيئاً: «هنا»، كانت تلتقط أي شيء لأنها لم تتعرف إلى الأسماء المكتوبة على هذه التسجيلات. نهضت عن الطاولة وجلست ثانية. لم ترغب في أن تظل ساكنة.
قال الفتى: «سأجعل الشِّيك صالحاً للدفع نقداً».
قال الرجل: «بالتأكيد».
شربوا. وأصغوا إلى التَّسجيل. من ثمَّ وضع الرجل تسجيلاً آخر.
قرر أن يقول، لماذا لا ترقصان؟ من ثم قالها: «لماذا لا ترقصان؟»
قال الفتى: «لا أظنُّ ذلك».
قال الرجل: «هيا. إنها حديقتي الخاصَّة. يمكنكما الرقص إذا كنتما ترغبان بذلك».
ذرع الفتى والفتاة الدَّرب جيئة وذهاباً متعانقين، ينضغط جسد كل منهما على جسد الآخر. كانا يرقصان. وعندما انتهى التَّسجيل، أعاداه ثانية، وعندما انتهى ذلك التسجيل قال الفتى: «أنا ثمل».
قالت الفتاة: «أنت لست ثملة».
قال الفتى: «حسناً، أنا ثمل».
قلب الرجل الأسطوانة وقال الفتى: «أنا كذلك».
قالت الفتاة للفتى: «ارقص معي». ومن ثم للرجل، وعندما وقف الرجل تقدمت منه بذراعين مفتوحتين.
قالت: «هؤلاء الناس هناك إنهم يشاهدون».
قال الرجل: «لا بأس. إنه بيتي. يمكننا أن نرقص».
قالت الفتاة: «دعهم يراقبون».
قال الرجل: «هذا صحيح. اعتقدوا أنهم رأوا كل شيء هنا. لكنهم لم يروا هذا، هل فعلوا؟».
شعر بأنفاسها على عنقه وقال: «آمل أن يعجبك سريرك».
أغمضت الفتاة عينيها ثم فتحتهما. أقحمت وجهها في كتف الرجل. وقرَّبت الرَّجل منها أكثر.
قالت: «لا بد أن تكون يائساً أو شيء ما».
قالت بعد أسابيع: «كان الرجل في خريف العمر تقريباً. كل أشيائه هناك في حديقة منزله. صدقاً. ثملنا ورقصنا. في الدَّرب. أوه يا إلهي. لا تضحك. شغَّلَ لنا تلك التسجيلات. انظر إلى هذه المُسجلة. أعطاها لنا الرجل المسنّ. تلك التَّسجيلات الرَّديئة أيضاً. هلَّا نظرت إلى هذا الهراء؟».
تحدَّثت دون توقف. أخبرت الجميع. كان هناك أكثر من ذلك، لكنها لم تتمكن من البوح بكلِّ شيء. كفَّت عن المحاولة بعد حين.