«شعرت أن المدينة تجرف خطواتي وحدها نحو النهر، كي ألتقي بالباخرة التي انتظرتها من دون أن أعرف متى ستأتي حقاً». تتردد أصداء هذه الجملة من القرن الثامن عشر، وتحديداً من رأس دون دييغو دي زاما، بطل رواية «زاما» للأرجنتيني أنطونيو دي بنيديتو (1922 ــ 1986).
دي زاما رجل من طينة «غريب» ألبير كامو، يعمل موظفاً في الإمبراطورية الإستعمارية الإسبانية في الباراغواي عام 1790، منذ 14 شهراً، بعيداً عن زوجته وابنه. لكن رؤيته لجثة قرد تطوف في النهر، بعد محاولته الهرب من الغابة، تذكّر زاما بمصيره العالق وبتوقه للتفلت منه: «إنني مستعد للذهاب لكنني لا أذهب». ينتظر نقله إلى بوينس آيرس، المدينة التي يعتقد أنها ستقلب حياته. بين فترة وأخرى، يصاب الرجل بعوارض غريبة تتأرجح بين هواجس سوداء، وحماسة جارفة للعمل. يستحضر بنيديتو العزلة لإعادة خلق مناخات تاريخيّة وفلسفيّة متخمة بالترقّب الفارغ. الترقّب الذي لا يتبعه شيء على الإطلاق. بجمل مقتضبة كأنما اقتبست من البرقيات، كتب رواية مكثفة ومسكونة بالعلاقة المتوترة بين حرية الإنسان ومصيره، جعلتها الرائعة الوجودية للأدب اللاتيني بلا منازع. بعد مرور حوالي 60 عاماً على كتابتها، انتقلت «زاما» (1956) أخيراً إلى الإنكليزية للمرة الأولى (ترجمة إستر ألن) عن New York Review Books. إصدار يأتي كخطوة أولى لنقل ثلاثية بنيديتو حول الإنتظار (ثلاثية الترقّب) إلى المكتبة الإنكليزية، إذ تعتزم ألن ترجمة جزءيها الآخرين أيضاً El silenciero عام 1964، و Las suicidas عام 1969، للكشف عن وجه أدبي بقي متوارياً طوال تلك السنوات. قضى الصحافي والمحرر معظم حياته في مدينة مندوزا بعيداً عن التجمعات الأدبية في بوينس آيرس، «تلك العادة السيئة» كما وصف بورخيس العاصمة الأرجنتينية. في أعوامه الأخيرة، بعدما كان قد أمضى في السجن حوالي 18 شهراً في عصر خورخيه فيديلا، لمحه أحد الروائيين الشباب مرة يجلس وحيداً. الشاب المتحمّس حاول استدراج بنيديتو إلى الحديث عن رواياته، لكن إجابة الأخير جاءت كما لو أنها بلسان بطله: «أنت لا تزال يافعاً. لهذا السبب تعتقد أن أعمالي جيدة. لكن هذه ليست الحقيقة. أنا مسَلّم إلى العدم».