يكتب يوسف بزي لينسى شيئاً لا يمكن نسيانه وهو غالباً ما يعرف ذلك. يعرف أن الكتابة تعمل لمصلحة الذاكرة وضدّ النسيان، وربما لذلك تباغته أطياف بيروت في نصوصه عندما يوغل مطمئناً في مدنٍ أخرى. يكتب كما لو أنه يحمل الممحاة، ليحذف حياةً سابقة ويملأها بحيواتٍ جديدة. في كتابه «ضاحية واحدة، مدن كثيرة» (رياض الريس للنشر)، يأخذ رحلةً طويلة بين مدينة تقيم فيه هي بيروت، وبين مدنٍ زاهية وأخرى باهتة زارها ولم يقم فيها. اللغة الناضجة التي يستخدمها تدل على اعتدال المسافة التي يتخذها صاحبها من المدن: يكتب من دون مواقف مسبقة، ويفرد مساحة وافرة لانطباعاته البصريّة في ملعب نصوصه. ليس بزي كاتباً انتقائياً، بل يُسرف بسخاءٍ على قصصه في كيل الثناء تارةً والنقد طوراً، منطلقاً من براعة لامعة في الوصف، وخلفية معرفية «شعبوية» أكثر من كونها «ابتستمولوجية»، كما لو أن النصوص تتمم بعضها بعضاً، والمدن تتصل بحبلٍ سرّي رفيع نسجه الكاتب بحرفة بالغة. الكتاب ليس مجموعة قصصية، بل نزهة في قطار يوسف بزي، الذي لا يكتفي بالنظر من النافذة. ينزل فجأة في محطة ويتوقف في أخرى، وتسعفه لغته الأنيقة للتجول بلا تكلّف أينما حل. في أحيانٍ كثيرة، تحتال لغته على النثر وتطوعه لمصلحة الشِعر: «تندلق عليّ في لحظةٍ واحدة، بلاد جديدة بكل ما فيها، بعد مسافة شاسعة من فراغ، على امتداد سيناء». وتتفوق هذه الشاعرية التي تتوزع على جميع فصول الكتاب، بقوتها، على الأرضية الليبرالية المائعة، التي يضع الكاتب قدميه عليها عندما يتأهب ليطلق موقفاً. تنقذه لغته المطواعة من السقوط في أحيانٍ كثيرة.
زجّ بكافكا لوصف هواجسه قبل الدخول إلى غزة
لكن بزي يسقط أحياناً أمام رغبة عارمة ببوحٍ يجعله قاصراً عن لجم مواقف على حافة العنصرية. لا يعوزه الوعي، فعندما يجلد نفسه في الفصل الأول، بعنوانه الطويل أكثر من اللزوم، «بين المدينة والضاحية، بين الطهارة والنجاسة... أنا شبيهكم ونقيضكم: النجدة!»، ويقبل بتبني السلوك العدواني الناتج من نشأتهِ كما يعتقد، إنما يحاول إبعاد شبهة التعميم عن نصهِ المترف بحقلٍ معجمي متزن وسرد خلاب، وفحوى لا يرقى إلى مستوى السرد: «عشت في فردان، كمن دخل الجنة قبل الأوان ومن غير استحقاق، وكان يعزّيني قليلاً أن أمي مسيحية وليس مظهرها بمظهر المهجرة النموذجية، بمواصفات جنوبية بائسة... إذ كانت تعرف ولو لماماً بعض أصول اللياقات والتصرفات والكلام المنمق...». هذه الهفوات تتتالى، حين يتحدث بنبرةٍ مستاءة عن سلوك المهجّرين اللبنانيين خلال الحرب الأهلية وبعدها: «كان المهجرون عندنا في زمن الحرب يسكنون بيروت ويفرضون بصماتهم وآثارهم على الجدران والأبواب والشرفات والأرصفة». معاينة بزي للواقع اللبناني وعرضه لها بلغة العارف، تجعل التغاضي عن تكبر صاحبها على الأحداث وعلى ضحاياها ممكناً، إذ يجب التصالح مع صلافة الكاتب أحياناً حين يعترض والموافقة على عدائيتها. ولكن اعتراض بزي على أثر المهجّرين يبدو أمتن بكثير من مقارنة المشهد اللبناني هذا بالفضاء المديني الذي لفته في الجزائر. هناك، يشعر بأن الجزائريين يقيمون في مدن فارغة. مُدن عمّرها آخرون. والآخرون هم المستعمر الفرنسي، الذي لا يتساهل النص معهم في محاولةٍ لإنصاف تاريخي ــ ملتبس أصلاً في أساسه إن وجد ــ إنما يضمر إعجاباً بما تركه المستعمر للجزائريين، الذين يقيمون في حاضرٍ شيّده السابقون، كما لو أن العالم يبدأ من لحظة المستعمر.
قد يكون هذا مجرد خلل «كرونولوجي» وليس من العدل اصطياد العثرات في النصوص، لكن التطرق إلى الإرث الكولونيالي في الجزائر تحسراً يرنو إلى مهزلة في المنهج أكثر من كونه مجرد هفوة في السرد، وخاصةً أن العرض الجذاب، قد يُثقب فجأة بانبهارات مجانية، وإسقاطات تحاكي العولمة من ذيلها الرأسمالي: «روما، العالم خارج الشرق الأوسط». يريد بزي عالماً كوزموبوليتانياً في الشرق الأوسط، شرط أن يتحدث فيه الجالسون إلى طاولة واحدة، بالفرنسية. ويبدو متأثراً بصورةٍ شخصية لروما تحديداً، التي على عكس ما تظهر النصوص، تحارب من أجل كوزموبوليتانية تعادي الرأسمالية ولا تتغاضى عنها، كما يشرح عندما جلس في مقهى لطيف يبيع الجيلاتو اللذيذ للسيّاح الذين أتوا لالتقاط الصور أمام «الكولوسيوم»، وإلقاء النقود المعدنية في «تريفي فونتانا».
وبمعزلٍ عن صورة روما، وصورة روما كما يراها بزي، ثمة استعارات مجانية، أحياناً تبدو فاقعة، وأبرزها حين زج بكافكا لوصف هواجسه قبل الدخول إلى غزة: «هواجس كافكاوية». يُعرف عن كافكا أنه كان سوداوياً ومتشائماً. لكن حزنه كان أنطولوجياً متماثلاً مع قلقهِ، وهذه ميزة التشيكي الكئيب، أن حزنه كان سابقاً لقلقه، وليس العكس. في الواقع، ربما يكون هاجس بزي الأساسي أنه ليس مهجّراً تقليدياً، وأنه تجاوز ماضيه بنتف جلده، والاعتذار عما فعلته به الطفولة. هاجسه أيضاً القول إنه ليس من هؤلاء الذين ينتقدون الأثر الرأسمالي للاستعمار خشية أن يضعه ذلك في خانةٍ لا يحبّها، وأنه يريد شرق أوسط خالياً من رواسب الأيديولوجيا وطفيلييها. سيسأل قارئ «ضاحية واحدة، مدن كثيرة»، هل الكاتب بحاجةٍ إلى هذه الشروحات، أم أنه يبالغ في إثارتها؟ الإجابة متعثرة، إذ لا بد من الاعتراف بجمالية النصوص، التي تضعنا أمام لغةٍ تسبقنا دائماً بخطوة. وفي الوقتِ عينه، يبدو أن بزي وقع في هواجسه. والنتيجة الأولى هي كتاب واثق بفخاخٍ كثيرة. مغامرة على متن قطار يوسف بزي الذي يسير بسرعةٍ كبيرة هاربة من ذاكرته وإليها، من دون أن يستطيع التقدم ولو خطوة إلى الأمام. في مدنه، تراوح حياته نفسها بين «الدخول المبتور إلى الحداثة»، وبين اسطنبول التي يعتبرها «فضيحة مدننا». الفضيحة التي يختزلها بحزم: «أنا شبيه سوليدير، أنا شبيه الضاحية، النجدة!».