صفحات الإبداع من تنسيق: أحلام الطاهر
موناليزا مايوني *
ترجمة: ياسر عبد اللطيف


الخريف في نيو إنغلاند
كان من الوقاحة أن أُغفلَ رسائله
بينما أقضي الخريف في نيو إنغلاند
في تأمل أوراق الشجر المتساقطة
ومساعدة أمّي في نتف ريش الدجاج.

■ ■ ■


ذكّرني كيف كان يمكث صابراً
في أيام الجُمُعة بطفولتي علّني ألحظه
بينما تُقَدَّم أطباق السمك.
وفي أيام السبت أيضاً، غمغم كعمّة عجوز.

■ ■ ■


نخرنا، أنا وأصدقائي رأس غزال مُتجمد
عثرنا عليه بينما نتزلج على بركة هود.
وحنّطنا الفراشات، ذات ربيع، بين صفحات كتاب
فيما تتسرب رائحة شواء الضأن من المطبخ.

■ ■ ■


في ذاك الصيف زارني
وكان عصفوراً رقيقاً
وقف، بدعة، على مزلاج البوابة
ابتسمت لحجمه المنمنم، مستمتعةً بصفيره الحاد

■ ■ ■


التقطَ حشرةً من شقٍّ في الجدار
بمخلبه الدقيق الضئيل، صرعها
سحقها والتهمها حيّةً.
ومرت سنون، ضاعف فيها قيمة الرهان.

■ ■ ■


فكانت حروب
ورحل صديق، وقريب،
وطفل ولِدَ ولم يولد،
وشخوص محوريون أو هامشيون
في هدوء أو في صخب
آخذين معهم جزءاً منّي

■ ■ ■


كأثر من مجموعته يعجنه ببطء
ويصوغه على شكل كفٍّ
تمتد نحوي في مصافحة
كتلك التي لصديق أدركنا نذالته
وافتقاده الملحوظ لمهارة إخفائها.

■ ■ ■


وها هو يدسٌّ صنيعه بكل وقاحة وسط أيامنا
مبعثراً جثث الدواب على الطرق السريعة
خاطفاً أصدقاءنا بكل الوسائل
فيما يخدعنا بجمال الأوراق المتساقطة
والمذاق الفاتن للحم البقر النيء.

■ ■ ■


ولا نزال نحمل أطفالاً جدداً
ونغمر أنفسنا بالفرح وضوء النجوم
وبعيون الحب الجديد العمياء نفسها
نغضّ الطرف عمّن يحيلنا جميعاً
إلى أيتام.

المرأة التي ولدت ابنتي
من ناحية، هي ذكرى، أو جسد
يفرغُ رحِمه، قبل الموعد المقرر بشهرين
ومن ناحية أخرى صدرها غير جاهز للرضاعة
جنين مجهض في مرحلة متأخرة
ملفوف في محرمة من الكتان الرقيق
إسقاط الحمل تُمكن قراءته على نحوين
يصبح الجنين طفلاً
يوم تقرر المرأة الاحتفاظ به،
ولو غيّرت رأيها فلدينا تعريف لذلك
- فماذا لو رفض أن يكتمل؟

■ ■ ■


تُسمّيها بيبي
ويحشر الجسدُ ألماً
حيث ينمو الندم في موضع الحب
خَطَت بحرصٍ على الدَّرَج
لتبُرهن على حبها
حين لم يستطع قلبُها.
عزفت سوناتات على إيقاع غثيانها
ببطنها مضغوط لأصابع البيانو
حتى تستطيع بيبي سماع اسمها
تكلّمها كما لو كانتا
ستعيشان
وتخبرها بأسرار النساء.

■ ■ ■


كيف تحيض الأجساد وتنزف
وكم هي نتنة وقذرة
معظم الخلايا جاهزة لالتهامنا
في اللحظة التي نستسلم فيها راقدين.
خُذها أيها الجسد،
لأنك جعلتني راغبة عنها تماماً.

■ ■ ■


وأطاع الجسد في منتصف الليل
وهمّ أن يأخذهما معاً
الأمر الذي طالما أحبّه ويتمان
من لم يعانِ أبداً من تقيؤ الحمل
أو انزياح المشيمة وجراحة شق الفرج
في خدمة الإنسانية.
لا توجد معجزات،
فقط أيام طيبة في العمل
مرّ الأمر بصعوبة ولكن بسلام
وسمَّتها ميلودي، وصل الحبّ
وصارت عيناها لا تفارقه.

خرافة النقود
لم أعد أراها تقريباً
بخُضرتها البرّاقة في المتجر،
وأوراقها ذات الأحبار
لم تعد تتناثر في جيبي أو يدي
ولم أعد أحمل تلك العملات النحاسية الباردة
أو أرباع الدولارات الثقيلة التي تذكّرنا
بالاتفاقات الغريبة التي التزمنا بها
كقيمة موروثة
بلا معنى، تربطنا جميعاً.

■ ■ ■


أشتري كل شيء بالبطاقات البلاستيكية
حتى في السوق الريفية
باستخدام أربعة أرقام شفرية
مع إمرار البطاقة أو ضغطة بسيطة
أحصل على باقة ذهبية من النرجس البري.
ابتعدنا كثيراً عن الأصل
الذي تم استخراجه من المناجم
بالسواعد والكدح والعرق
لتنقش عليه وجوه الملوك
حتى أنني لم أعد أذكر
من المرسوم على ورقة الدولار.

■ ■ ■


تلك المؤسسة الهبائية
وذلك الاتفاق الذي يثمّن الأرقام
في الهوية والتجارة
يربطُ أحدنا بالآخر
برابطة أن تُقرِض ورابطة أن تكون مَديناً
ستتدفق أنهار اللبن والعسل
فقط عندما نعملُ لنشبعَ أماً
أنتجها الحاسب الآلي.

■ ■ ■


ومن دون أي علاقة بسبائك الذهب العتيقة
تملأ لا بد تلك الأرقام الوهمية التي صرناها
قلوب الأتقياء والصالحين بالخوف
فلا مكان على بطاقات الائتمان
التي نضعها في جيوبنا
لتُنقَشَ عليه عبارةُ إخلاصهم
للربِّ الذي فيه يثقون.

محارُ فرجينيا

على مسافة لا بأس بها من الشط،
يتراجع التيار الناصع الشديد البرودة
نحو الأعمق أبداً
يجرفُ كل ما ليس راسياً.
ليزفرَ زخارف من العوالق والبلّوريات
تستنشقها الخياشيم، تمتصها
وتحيلُها هُلاماً
يغيّر جنسه من موسم لآخر
على هوى المدّ والحرارة
فتكون نشوة أنثى أو قذفة مني
بحسب مِزاج نبتون العاصف.

■ ■ ■


تجمع الآلهة عطايا الريح من كلّ صوب
تجلب الأشرعةَ وصواري السفن من الأفق
وكل الغرقى من جوف البحر
في ذلك الجُرم الصغير ذي الملوحة
الذي لا ينغّص وجوده مخّ ولا أعصاب
بنبضات قلبه الشفيف كجنين رطب بسوائل الرحم
يرقد برفق في راحة يد.
ملح وروم وبهارات وجبال من القواقع تخلفت
كمكافأة على المجهود الجاد للصمود في هذا المدار.
بمداعبةٍ خفيفةٍ، ترتخي العضلةُ المنقبضة
وتتباعد الصدفتان لتفوحَ رائحةُ مولود طازج
ورمزية الفَرج التي لا فكاك منها
تُلهب لا تزال خيال البحّارة
بعيداً عن ديارهم.

■ ■ ■


عبر الأجيال يمتد خيطٌ
يعلّم الأبناء أن يأكلوا بعض الحيوانات نيئةً
وأخرى مطهوةً، وأخرى بكاملها.
لكن هذه يُفضّل أن تُؤكل حيةً
لينتهي في الأحشاء قلبٌ سليمٌ نابضٌ،
بثروةٍ من التاريخ على طيف ألوانه
ومذاق الحروب القديمة وتسرّبات النفط
وشروق الشمس على شواطئ غطّاها الجليد.
السفن لا تستطيع الرسو على الشعاب
المفتوحة على المد القادم، وقد كستها الأصداف.
محار ويلفليت لم يعد موجوداً
ومدينة تشيزبيك الخصبة بلونج أيلاند
لها لكنة مختلفة بوضوح
عن لكنة تشيزبيك التي بكيب كود،
لكن محار ويلفليت لم يعد موجوداً.

■ ■ ■


تودعُ الكتبُ والخرائط والدساتير
والدروس والأشعار المعرفةَ في العقل،
لكن ذلك النظام البيئي الصغير والقديم والمدرع
بطعم الملح والعضة القاتلة
وألوانه الممهورة
بمسحة من الشمّام الحلو والشمبانيا
ومذاق ماء الحياة المطلق
يعلّم أبناءنا أن يتذكروا
كيف كان العالم في ما مضى.

سيدات البراري

من اعتمرن أغطية الرأس الخشنة
وحرثن تلك البراري
تحت دواليب العربات، شئت أو أبيت
لتمتد الظلال
وتمتد الأعباء
وكتب الصلوات
نحو وعد بالتضور جوعاً
في الشتاء.

■ ■ ■


أيّتها السيدات اللائي اعتنين بالأشغال
المُكتفيات ذاتياً
أيتها السيدات، نحن حتى لا نعرف
ما الذي يعنيه أن تكوني مجبرةً
على حب رجلٍ ملوثٍ بالطين
رجل يحصل على ما يريد
وينال غرضه منكِ
بفمٍ متسخ
رجل فظّ
فلا يفرقكما سوى الموت.

■ ■ ■


قليلٌ من الحقائق وكثير من الخيال
كانت هذه طريقتك الوحيدة
لفهم الكتاب المقدس
تتوجه الشمس في غروبها
نحو بقعةٍ أفضل من الأرض
بعيداً عن هنا
فتحزمين أطباقك الخزفية
وتطعمين مشيمتك للكلب
وتطوين بناتك كالملاءات
وتدسينهن تحت ألواح خشب الأرضية
المتشقق كالبلد الذي اجتزتِه
بعين مفتوحة على اتساعها
تجاه العتمة الفوارة
لضوء الغروب.

* موناليزا مايوني: شاعرة ومصورة أميركية معاصرة، درست الفنون البصرية في نيويورك وسالزبورغ في النمسا. تعيش حالياً بين مدينة سان لويس اوبيسبو في كاليفورنيا والعاصمة الفرنسية باريس.