باولو سورنتينو يكره نفسه، باولو سورنتينو يكره الجميع. يحبّ الأزقة ويكرهها، يعرف الشوارع ولا يعرفها. محفورة في قعر رأسه وأحياناً ليس لها وجود. إنه واحد من الناس، يتفق معهم اتفاقاً تاماً، ويختلف معهم اختلافاً حاسماً لا عودة عنه. يتخيّل وينحت في خياله صوراً. لا يكتب سيرته كما قد يعتقد الذي يمسك الكتاب للوهلة الأولى. يكتب سيرة النابوليّ الذي يتأرجح بين العادي والاستثنائي. ولد المخرج والكاتب الإيطالي البوهيمي في 1970، وأحداث روايته «كلهم على حق» (2011) التي انتقلت أخيراً إلى لغة الضاد عن «منشورات المتوسط»، تجري منذ الخمسينيات وصولاً إلى آخر الثمانينيات. لكن في 1979 كان طوني باغودا بطل روايتنا بصحبة الكوكايين مع زميله في الفرقة، يعيشان حياةً مترفة على أطراف نابولي بفرادتها أمام البحر وخلفها، ويعيش باولو سورنتينو تحت جلد بطلهِ ويتجول معه. ليس سورنتينو في عملهِ هذا راوياً، أو قاصّاً عادياً. إنه يسجّل موقفاً كل دقيقة. لا يلتقط نفساً واحداً إلا ويتبعه بموقف. الكراهية العظيمة والنبيلة التي يتحلى بها موقفه، ليست إلا تعبيراً صائباً غالباً، لديه أسبابه دائماً. في «الجمال العظيم» (La Grande Belleza)، تحفة سورنتينو السينمائية، كان غامبارديلا كاتباً يئس من الكتابة، ولم يكتب رواية ثانية، لأنه في انتظار الجمال العظيم. لكن السينما لا تكفي عبقرياً نزقاً كسورنيتنو. لقد قفز من الشاشة إلى الرواية: طوني باغودا في «كلّهم على حق» هو طوني سيرفيللو في «الجمال العظيم»، لكن بنسيج سردي يلفت الانتباه، وستسعف القارئ العربي ترجمة ممتازة في نسخة «المتوسط» للمترجم السوري معاوية عبد المجيد.
روما انطباع. تشبه كفن المسيح. لا يحتوي على أي إله

«روما انطباع. تشبه كفن المسيح. لا يحتوي على أي إله». هذه إحدى ألعابه الدنيئة. جملة يستكمل فيها بحثه الطويل عن المدينة، وإن كانت المدينة بالنسبة إليه هي نابولي. المدينة التي تختفي فجأة وتظهر فجأة. المدينة التي تختزل العالم ولا تساوي شيئاً في هذا العالم. أدبياً، ليس سورنتينو كاتباً ساحراً في لغته وأدواته. يفرط أحياناً من الاستعارات والتشابيه، ويقذفها في غير مكانها. بلا شكٍّ يفعل ذلك عمداً مضيفاً الهزل إلى المشهد، كما لو أنه يصور فيلماً، ويخشى أن تفلت من عينيه إحدى اللقطات. أحياناً يرنو في حدة استهزائه إلى العبث، وهذه إحدى نقاط قوته الأساسية. المتن السردي ليس ضرورياً بقدر ما تهمّه الفكرة، الفكرة ــ الصورة، الموقف الساطع الذي يتخذه في انحيازه إلى «أولاد الشوارع» النابوليين، حين يفكك طفولة طوني باغودا وديميتري وغيرهما، وحين يسجّل رفضه لحدوث كل هذا الذي يحدث وسيستمر في الحدوث. مثل جيلٍ عريض من الإيطاليين، يتجاوز الكتاب والروائيين إلى المخرجين السينمائيين والمسرحيين، يقسو سورنتينو على المؤسسة الدينية بسخرية مبهرة. يستعير سيرتها ناقداً السلطة التي تمثلها، لكنها استعارة باسم سكان جنوب إيطاليا، الذين يتضرعون إلى العذراء، ويقسمون بالمسيح، ويعيشون في رحاب كاثوليكية متجذرة في سلوكهم.
قد يخرج نسويون ونسويات بائسون وبائسات ويقرّعون سورنتينو، لإفراطه في عرض مكامن الذكورية في شخصية النابوليّ طوني باغودا، الذي يحب النساء والعاهرات، ويستخدم البذاءة أكثر مما يتنفس هواء البحر الذي يسيّج مدينة الجنوب الرهيبة. لكنه يسخر منهم، تارةً على لسان معلمه ميمو ريبيتو، وطوراً بالنص الروائي نفسه، الذي لا يفهم منه كعمل فني، إلا أنه في خانة نقد الذكورية وأبعادها الطبقية، وتقريعها.
يقرّع سورنتينو طوني باغودا، يجلد النابوليّ نفسه في هيئته المترفة. وأول من تلقف هذا البعد في «كلهم على حق»، أو أبرزهم، كانت لايا فورتي، التي عملت معه في «الجمال العظيم». عرضت مآسي جنوب إيطاليا في شمالها مسرحياً، وفي إيطاليا هذا موضوع حساس للغاية، وليس كائناً من كان يستطيع تناوله. كان الجمهور «سخياً» في الشمال، وفهم أن تقمصها لطوني باغودا، يضع عمل سورنتينو في مكانه الفني الصحيح، بمعزل عن نقد النسوية الترندية والسطحية. في حديثه عن علاقته الزوجية بماريا، يقول باغودا الحقيقة. وعندما يتحدث عن قبلته لأنطونيلا وهي في السابعة عشرة، فيجب أن ننتبه إلى أن هذه الأشياء تحدث في إيطاليا، وأن العمل الفني ليس عملاً أكاديمياً، إنما هو عمل فني. يستفيض سورنتينو في جلده لأبناء الضواحي، وفي تعاطفه معهم، عندما يتناول سيرة «الكاموري الطيب»، وعندما يفهم أن ثمة من عاش في الشارع أكثر منه، وأن كرة القدم بالنسبة إليه ليست مجرد 11 لاعباً يلهثون خلف الكرة. مارادونا هو المسيح، واستاد سان باولو هو ملعب العالم. الطبقية مسألة أساسية، والبورجوازية الإيطالية أسهمت بفعل الزمن في تشكيل هذه الهويات التي تطارد الحياة ولا تصل. قد يبدو سورنتينو عبثياً وعدمياً، لكنه أمين لكل التفاصيل: لأهمية العذراء في مجتمع ناقم على الكنيسة، ولحضور الأم في وعي النابوليّ حضوراً حاسماً، وفي أقل العوامل التي تؤسس لهيئة المدينة المعاصرة وأكثرها.
نابولي الخمسينيات ماتت. انتهت. ينظر الكاتب من «العالم الجديد» في البرازيل إلى إيطاليا، ولا يرى الجنوب العائم على المتوسط. «خارج بوابة البناية، يظهر عكس المدينة. ليس بوسعك أن ترى البحر من هنا، فأنا أعيش في الجانب الآخر تحديداً، في الجانب المظلم من نابولي». هناك، حيث يشعر بأن المدينة فارغة، بعدما استحمّ الكنّاسون وخلدوا إلى النوم. وهناك، حيث تحلّى بالصبر في انتظار تفسخ جميع المزايا الزائفة. هناك تبدأ الرواية، وهناك تنتهي، في ذلك الجانب المظلم من العالم.