لم يكن يعرف أنّ هنالك غاتوه اسمه مادلين قبل مجيئه إلى فرنسا، يعرف أنّه اسم نسائي، بخاتمة جميلة تُرخي الأعصاب، ماد لييين، مع تسطيح الياء قليلاً. كما كان يعرف أن كليمانتين اسم نسائي كذلك. لكنّه في متجر كازينو الكبير وجد حبّات الكَرَمَنتينا مكتوب عليها كْليمانتين، هكذا إذن تحوّل الاسم السكسي للفاكهة سهلة التقشير إلى الاسم البهلواني عندنا، بعد تبديل اللام بالراء وتحريك بعض الأصوات فيه ومطّها.ما جذبه في المادلين كان بدايةً اسمه. ولأنّه يحب الغاتوه وكل ما يُعجن ويَخرج من الفرن حُلواً، حفظ بسرعة أسماء معظم ما تعرضه المخابز على واجهاتها من غاتوه على أنواعه، من بينها المادلين الذي تميّز عن غيره من المعروض بأنه موجود في متجر كازينو في كيس بلاستيكي يزن كيلوغراماً، للحبّة فيه ثلث حجم الحبّة في المخابز، وقد تكون خُبزت قبل أسابيع، وهي الآن تُعرض في أكياس مكوّمة فوق بعضها، تُباع كلّ عشرين حبّة في كيس. لكنّ للكيس سعر حبّتيْن كبيرتيْن وطازجتيْن، من تلك المعروضة في المخابز. حبّتان وإن خُبزتا قبل ساعة أو اثنتيْن، وإن لم يمسّهما كيس بلاستيكيّ، لن يسمح سعرهما بأن تكونا فطوراً ليوميْن أو وجبة مسائيّة. لم يجرّب أن يشتري واحدة من مخبز، يستغليها في كلّ مرّة. لكن منذ اكتشافه هذا الاسم الأنسب لامرأة في فيلم فرنسيّ منه لحبّة غاتوه، منذ اكتشافه له ملفوفاً بالأكياس الثرثارة بصوتها المتبعثر كلّما مُسكت، صار في مشواره الشّهري إلى المتجر يسحب من بين الكَومة كيساً مليئاً بالمادلين ويحمله، ويعود مارّاً بالمخبز في الطريق إلى البيت.
سيحبّ يوسف أن تكون المادلين التي يعرف مذاقها ويحبّه، من تلك المعروضة في المخابز، تلك الممتلئة المسحوبة كالأفخاذ، الصفراء المحمَّرة أطرافُها، المدهونة بالزبدة، المكشوفة مفاتنها إلى الناس، تلك التي تعيش في المخبز مطلّة على الرصيف والمارّة والحياة، لا الناشفة المخبأة في العتمة المحفوظة في كيس منفوخ مرميّ بين عشرات الأكياس في كلّ منها العدد ذاته من حبّات متطابقة في الشكل والطعم، أُعدَّت في قوالب معدنيّة لا بيدَي وأصابع صاحبة المخبز المجاور التي لم يعرف يوسف وجهها إلا مبتسماً.
سيقول لنفسه بأنّه حين يغمّس حبّة المادلين في فنجان الموكا سيخفّ طعمها بتأثير القهوة الداكنة الكثيفة، ستغلبه القهوة، وسيتقارب بذلك طعما المادلين المُعدّة في المخبز الصغير في الحيّ المعروض منها حبّتان أو ثلاث، وتلك المحفوظة مع مئات غيرها في مخازن عملاقة.
يعرف جيّداً أن الطعم لا يتقارب، وأنّ اللذة المتواضعة التي يجدها في حبّة المادلين الناشفة لن تكون أبداً كالتي يمكن أن يجدها في حال تذوّق من تلك المعروضة في المخبز الذي يمرّ به، وبها وبكل ما يعرضه من الغاتوه، وإن غمّس الحبّتيْن في القهوة ذاتها. ويعرف جيّداً أنّ فيه عادة إقناع ذاته بأفضليّة ما يستطيعه، وبأنّ ما لا تطاله يداه ليس الأفضل بالضرورة وإن رغب به، فهنالك دائماً تفسيره المتفلسف للتقريب بين ما لا تطاله يداه وبين ما في متناول يديْه، وأخيراً يقتنع بذلك، بأنّ القهوة تزيل طعم المادلين أو على الأقل تزيل الفروق بين الجيّد منها والسّيئ. سيقول لنفسه بأنّ ما لديه من حبّات معبّأة في كيس ليست سيّئة وليست الأفضل، وهذا الفارق بين الليست سيّئة والليست الأفضل يذوب مع القهوة. كما أنّ القهوة ذاتها، تلك التي تُعدّ بماكينات خاصّة، ليست بالضرورة أفضل مما يعدّه هو في إبريقه، وإن لم يخفِ مرّة رغبته بماكينة الاسبرسّو، لكنّه يردّد لنفسه بأنّ الإبريق أكثر حميميّة، تتنشّق أولاً من رائحة البن، فلا كبسولات مغلقة هنا، وتضع القهوة بيديْك بالقدر الذي تريده، وإن أربكتْك الملعقة الخامسة، ثم تسمع صوت الماء يغلي وليس صوت الماكينة تدور.
يعرف يوسف أن ليس لتفسيراته هذه سوى غاية إرضاء نفسه. يعرف أنّها فارغة وحمقاء، أنّها حجج الخاسرين، لكنّه لا يتركها، هي نظرته إلى كل ما يريده ولا يناله، بما في ذلك رغبته القديمة بالهجرة إلى أوروبا، قبل اندلاع الثورة في سوريا، حين كان يعمل في دبي، وأكثر حين عاد لاحقاً إلى دمشق. رغب بالهجرة لألف سبب من بينها أن ينال جنسيّةً ويجد نفسه يوماً في صالةٍ منتظراً أن يمرّ إلى طائرة ستقلّه إلى مطار بن غوريون، أو مطار اللّد كما يصرّ على تسميته.
كثيراً ما شعر بأنّه اثنان، شخصان يشفق أحدهما على الآخر، وقد يغضب منه ويُسمعه كلاماً جارحاً ويعاقبه. كلّها، الإشفاق والغضب والكلام الجارح والعقاب والردّ عليها بالبكاء أحياناً، كلّها تدور في صمت، في رأسه وصدره. تماماً كما سيبكي في المطار بعد تأخّره عن رحلته إلى فلسطين.
يشتري كيس العشرين حبّة. في مساء اليوم ذاته تخطر له المادلين المعروضة في المخبز، يمرّ بها في الطريق إلى البيت، يخطر له بأنّها ستكون حتماً ألذّ ممّا لديه. مادلين لا تبادلني الودّ يقول بين اليأس والهُزء، وبالفصحى.
يبدأ بفبركة وتشبيك أسباب ستؤدي بالضرورة إلى تساوي اللّذة في كليْهما، ثم سيؤنّب نفسه لذلك، سيشفق على نفسه لمحاولاته تلك، لإجبار ذهنه عليها في وقت يعرف، الذهن نفسه، أنّها مفتعلة. يغضب، يؤنّب نفسه ثانية، يصحو في اليوم التالي ويتناول حبّات المادلين مع القهوة دون أيّ اعتبار لما دار مساء أمس، دون أيّ ذكر له أو تذكّر، لا تشبعه الحبّات الثلاث ولا يمدّ يده ليلتقط من الكيس الممتلئ حبّةً رابعة. لا يعود ذلك لسعر حبّة المادلين في المخبز بقدر ما يعود للعلاقة الذاتيّة بين يوسف ونفسه، أو بين يوسف وجوزيف كونها علاقة بدأت معه، أو نضجت، في فرنسا، أو انتبه إليها حيث انتبه آخرون لاسم جوزيف وألصقوه به.
مع لِيا، سيتوقّف عن ذلك. يحكي لها عن مادلين المتجر ومادلين المخبز، تقول له بأنّه لن يشتري من ذلك الكيس طالما كانا معاً، طالما كانت في حياته. أرجعت مرّة في مخبز حبّة دونَت بمربّى الفريز كان قد اختارها ضمن وجبة مينيو تشمل ساندويشاً وعصيراً وغاتوه، أرجعتْها وطلبت من البائعة استبدالها بحبّة مادلين، وطلبت لنفسها حبّة كذلك.
يوسف الذي عمل لفترة في شركة تأمين في دبي، وكان على علاقة بائسة مع طبيعة عمله ومع الشركة والموظّفين وتحديداً العملاء. كان يبرّر لنفسه بقاءه في وظيفته بالرّاتب الشهري الذي يستطيع به تدليل نفسه ومكافأتها، كأن يكافئها على تحمّل مديره الهنديّ، الإنكليزيّ الجنسيّة، بالتوجّه من الشركة مع انتهاء الدّوام مباشرةً إلى محلّ زارا لشراء قميص، مقلّم غالباً، كان قد رآه قبل أيام وامتنع عن شرائه، باحثاً عن سبب ليشتريه، أو مبرّر غير الإعجاب به.

*مقطع من «تذكرتان إلى صفورية»، واحدة من 7 روايات تصدر عن «دار الساقي» بالتعاون مع «آفاق» ضمن برنامج الدورة الثانية من «آفاق لكتابة الرواية»، تحت إشراف الروائي اللبناني جبّور الدويهي.

** كاتب فلسطيني