«ممم، لم يكن هذا اتفاقنا، على ما أذكر»
قال علّام ورمى زوجته بنظرة عتاب امتزجت بالخبث. ثم تابع:

ــ كيف يمكن للتلفاز أن يكون هنا؟ لا تنسي أن تضعي حجمه في الحسبان. خمسون إنشاً تقريباً، شاشة بهذا الحجم لن تتناسب مع طاولة طعام قريبة بهذا الشكل. نحنُ نتحدّث عن طاولة تتسع لخمسة عشر شخصاً على أقل تقدير.
ــ حسناً، لا خيار أمامنا إذاً سوى نقل الطاولة إلى ملحق المطبخ. أي ملاحظات أخرى؟

هكذا سألت وقد بدا عليها الاستياء. اقترب منها علّام، لفّها بذراعيه وأدارها فواجهت الجدار، معطيةً إياه ظهرها حيث التصق الجسدان، وهمس في ظلام أذنها اليمنى: «هذا بيتك، وكلّ شيءٍ فيه ملكك أنتِ، رتبي ما شئتِ من الأثاث، كيفما أردتِ. ولن أتدخّل». شدّ على كتفيها برفق، وأردف بصوتٍ خافت: «اتركي لي اختيار لون سريرنا المكيّ وحسب، ذاك الذي أتوق ل..» دفعته واستدارت بسرعة، ثمَّ قالت بغنج: «عيب... قد يسمعنا أحد الخدم!».

تقدّم علّام نحو النافذة، وبعد أن أخذ نفساً عميقاً قال:

ــ منزلنا يجب ألا يكون محاطاً بهذه الحديقة الغبية، ماذا نقول لصحبنا؟ شيّدنا هذا القصر واكتفينا بهذه التي تُشبه الحدائق العامة ببلادتها وقلّة حيويّتها!
ــ حديقتنا جميلة جداً! أنت تعرف ما تعنيه بالنسبة إليّ.
ــ نعم نعم... الذكريات... الذكريات... ألا يكفي؟! صارت الحديقة بالية، خالية من الروح. تخيّلي مثلاً بحيرةً صغيرة، هناك، في الوسط تماماً، تعكس غروب الشمس وتهتزّ بخفّةٍ حين تداعبها الريح. نزرع حولها الأزهار بكلّ أنواعها؛ ليلك، خزامى، غاردينيا، ياسمين... قد نأتي ببعض البط أو الطيور الملونة لتتراقص حولها وتغني، تخيّلي تلك الطيور الصغيرة المشاكسة تغني لكِ في الصباح، ولا تريد سوى أن تفتحي لها الستائر فقط. ثمّ قبل مدخل القصر بقليل؛ نشيّد نافورةً مزخرفةً على الطراز الدمشقيّ.
ــ علّام، كفاكَ أحلاماً... هل انتهوا من خزانتي؟ لا تتهرّب كما تفعل دوماً.
ــ حبيبتي، إنهم يعملون عليها ليلاً نهاراً، وسوف تكون كما طلبتِ، بحجم الحائط، بيضاء، بأقسام مختلفة؛ ملابس صيفية، معاطف شتائية، قسم للأحذية... أليس كذلك؟
ــ وغرفة «عمران»؟ ماذا عنها؟ سرير، طاولة للقراءة، مكتبة، خزانة ملابس ورسومات الحائط التي اتفقنا عليها مع الرسّام... ما سبب هذا التأخير كلّه؟!
ــ لا... غرفة ذاك «الأزعر» ستحتاج لبعض الوقت، حبيبتي، الرسام سيأتي من إيطاليا الأسبوع المقبل.
اقتربت «سحر» مستخدمةً ردفيها لتفسح لنفسها مساحةً خلف النافذة، وقفت ترنو إلى الخارج، وبهدوء، سحبت نفساً عميقاً من الهواء وأخرجته دفعةً واحدة. وقالت:
ــ أتعرف يا علّام؟ أحياناً أحلم لو أن هذا البيت ليس لنا، وأننا فقراء، نسكن في قريةٍ بعيدة، ومنسية.
ــ سحر...
ــ بيتنا يتألف من غرفة واحدة للنوم، يشاركنا إيّاها ابنٌ أتم عامه الحادي والعشرين، ويعمل سائق تاكسي. جسدي ممتلئٌ قليلاً، وأنت نحيلٌ إلى درجةٍ لطالما أثارت مخاوفنا بأن تكون مريضاً. تعمل عشر ساعات كلّ يوم، وأحياناً أكثر... تكابر على فقرك، على تعبك، تمرض قبل بداية العام الدراسيّ خوفاً من المصاريف الآتية عليك كعاصفة، وتمرض في آخره خوفاً من مصاريف العطلة. تداوي آلام أسنانك المهترئة بالملح والخل، وتحارب الألم بربط الفك بخرقٍ قديمة. تتظاهر بالنوم مبكراً لتشعرنا بالخصوصية، وتستيقظ قبلنا وتمضي مسرعاً... لتهرب من كذبة «صباح الخير».
ــ سحر... قولي لي، أين عسانا نضع حوض الأسماك؟
ــ أحياناً أحلم أنني أبكي كلّ ليلة، على سريرٍ عتيق يئنُّ بأصواتٍ متنوعة، على حالنا. أبكي على الفرح الذي سرقته الحياة منا، ورأيناه بعيون من لا يستحقونه، ولا يقدّرونه... أرانا...
ــ سحر!!
ــ أرانا نكبر كلّ يومٍ عشرة أعوام، يقولون إن المرأة الفقيرة تكبر أسرع من تلك الغنية... أهذا صحيح؟
ــ هيا... حبيبتي
ــ طبعاً تكبر أسرع، كيف لا؟ تستعجل الموت هي. فقد تألّمت في صغرها، وغضبت في صباها وحزنت في كِبرها، أدت الدور إذن على أكمل وجه، فأين الجائزة النهائية: الخلاص؟
ــ سحر... كفى!

سُمع طرقٌ خفيفٌ على الباب، كان علّام يراقب دمعةً تكوّنت في عينيّ سحر وانسابت برفقٍ على خدّها حتى قطعت نصفه وتلاشت. مَسَحتها فوراً، وكسائر الأمهات؛ خلعت الحزن قناعاً ومضت...
طوى علّام نظارته السميكة وتركها على الطاولة، جرجر جسده النحيل ببطء وأشعل سيجارةً ليمتصها أمام النافذة. جلس بشعره الأشيب وذقنه المتداخلة يراقب أكياس القمامة التي شكّلت جبلاً من النايلون الأسود المحاط بالذباب، تعبث بها بعض القطط علّها تجد ما يقيها الموت جوعاً، وغالباً لا تجد سوى الخيبة. فأيّ عائلةٍ في هذا الحي ستتخلى عما هو قابل للأكل؟! ينفثُ علّام دخاناً متقطعاً، بينما تمر السيارات لتعكّر تركيزه، وتبصق دخانها الأسود ليتسلّق الجدران ويحاور حبال الغسيل في الطريق مستقراً في مناخيره على شباك الطابق الثالث. كان الهواء ساخناً، ملوّثاً، يحمل بعض الرطوبة ما يجعل الحلق جافاً أثناء التدخين. يتأمّل علّام الدخان الخارج من فمه كأنّه مجموعةٌ من اللصوص الهاربة. محاولاً ألا يسرقه الحديث الذي يدور خلفه ببضعة أمتار، بين سحر وابنها العائد للتو من ورديّته، حاول أن يحرر عقله من هذا الضجيج، فأغمض عينيه هنيهةً، وتمتم بصوتٍ خافتٍ لم يسمعه سواه:
«بعض البجع، نعم، ليس البط. الكثير من الأزهار لاستقبال الضيوف بالعبق والألوان. النافورة الدمشقية، ترتفع عن الأرض متراً ونصف المتر... أكثر قليلاً ربما. وهناك، في الوسط تماماً، البحيرة. تعكس الغروب وتهتزّ لمداعبة الرياح. البحيرة التي سوف تستفزّ غيرة الجميع، ليتهافتوا عليها لالتقاط الصور ورؤية الطيور... بحيرتي الساحرة»
ساد الصمت لبعض الوقت، وكانت سحر قد بدأت بتحضير الطعام. أما عمران فقد أخذ مكانه في زاوية الغرفة التي بدأت طلائع الظلام تتسلّل إليها، واستعدَّ لتهدئة الجوع. ثمَّ سُمع الصوت يخرج غليظاً من النافذة:

«بحيرة البجع .. لصاحبها علّام علّام».