يتلازم المساران النسوي والطبقي تلازماً بنيوياً في أعمالها
مقالات مرتبطة
-
جرح في القلب، نزيف في النص أحمد محسن
في نابولي، ومن الداخل، تسمّى الكامورا بين أعضائها بالتنظيم. الكامورا مصطلح يرفضه الكاموريون أنفسهم. وفي أدب فيرانتي، الكامورا هي صنو النقد الذي توجه للفاشية، ولموروثها في المجتمع وفي أنظمة الخطاب المحيطة بالمجتمع الإيطالي. وهذا يحتاج إلى شجاعة فائضة عن الواقع، ما دفع بعض النقاد الإيطاليين للقول بأنّ إيلينا فيرانتي هي رجل يختبئ خلف اسم امرأة. لكن سرعان ما فقد هذا الادعاء «الجنساني»، واللا أدبي، شرعيته في الوسط النقدي الإيطالي، خاصةً أنه مشبع بنزعة بطريركية، ترفض أن تكون هذه القوة الأدبية الخالصة المنزوعة تماماً من أي خوف في كتابات فيرانتي هي كتابات امرأة. في أي حال، لا يمكن تجاهل هاجس أساسي أن النساء في رواياتها مشوهات، وأحياناً محطمات من الوسط الاجتماعي الذي يعشن فيه، لكنهن منتقمات، وصوتهن يرتفع تدريجاً، بينما الرجال على أطراف القصص، أو يمكن القول حولها، لكنهم ليسوا موضوعاً رئيسياً على الإطلاق. ومثال على ذلك، توغل فيرانتي في العلاقة بين الام والابنة، ومحاولتها المتكررة إنقاذ نفسها من ثنائية الزوجة ــ الأم، بدعوتها المتكررة للحفاظ على الأنا الأولى المتكونة السابقة للمجتمع والمتمردة عليه. في «الحب المتحرش»، تظهر رغبة والدتها بوضوح بالتخلي عنها، ثم تعود لتنتقم من الأمومة بعد 20 عاماً عن صدور الرواية الأولى، في «صديقتي المتألقة»، عندما تقول إنها رأت جسد أمها دميماً.
تبدو في أعمالها كما لو أنها مدينة أبدية تمتد إلى ما لا نهاية
تعمل فيرانتي على دفعات. تبوح تدريجاً. لا تتعب. في «صديقتي المتألقة» (L’amica geniale/2011) تنعم ليلا بطمأنينة الثراء، إلى حدٍ ما. وفي «قصة الاسم الجديد» (Storia del nuovo cognome/2012)، تتحول إلى «جاكي كينيدي» على الطريقة الإيطالية. امرأة، star، على الموضة، تنعم بحياةٍ رغيدة، لكنها خالية من أي نكهة فرح. يصيبها الوهن الذي تصفه الكاتبة بوضوح في أحد الحوارات: «لاحظت أنه مهما كافحت، عملت، أو أعلنت كل ذلك، فإنها لا تستطيع الخروج من الحقيقة: منذ يوم زفافها يلازمها شعور بالحزن. شعرت بالشفقة حيالها عندما قالت: وإن كنتِ أفضل مني، أو تعرفين أكثر مني، لا تتركيني». هذا الجزء من السلسة النابوليّة، يمكنه عده حاسماً. في هذا الجزء، تنقل إيلينا عن مذكرات صديقتها مع زوجها ستيفانو، «الماتشو» و«البزنسمان»: «هل يمكن، لجسدي أيضاً، أن يخرّب يوماً ما، ليس بخروجه من جسد أمي بل من جسد أبي؟ وهل أن كل ما تعلمته في المدرسة عن الحلول، سينتصر بانتصار ذاكرة الحي والجيران مجدداً؟ التغيّرات، الأخلاق، كل شيء سيمرغ في الوحل الأسود. أنا كسيماندر وأبي، فلوغوري ودون آكيلي، اللغة الوقحة والبذيئة للسولاريين، هل سيتكرر كل هذا الذي يحدث منذ قرون، في هذه المدينة الفوضوية والوضيعة؟». ثمة إحالة دائمة إلى نابولي، تعود إليها في «هؤلاء الذين يغادرون وهؤلاء الذين يبقون» (Storia di chi fugge e di chi resta/2013)، حيث تسلّط الضوء على نضوج الخطاب النسوي الإيطالي، في ضوء نضوج إيلينا وليلا نفسيهما. تحضر الاضطرابات في إيطاليا أيضاً، وتحضر الألوية الحمراء كإعلانٍ لهيمنة الفوضى.
يمكن الجزم أنّ روايات فيرانتي ليست بوحاً مجرداً، وإن كان البوح سمة أساسية. ما يميّز نصوصها عن نصوص إدواردو دي فيليبو، أو إلسا مورانتي، اللذين تطرقا لنابولي والمرأة بدورهما تطرقاً باهياً، أن الصراخ في نصوصها يصل إلى حد الهلوسة. سرعان ما يتضح أن الهلوسة هي رفض معلن ينبذ الإذعان لوسائل الرفض السائدة. لا تكتفي فيرانتي بالسرد. هذه هي الحال مع أولغا إحدى بطلاتها، ومع إيلينا نفسها، وأحياناً تصير ليلا المتحدثة باسم المدينة ــ السُلطة. وللمناسبة، ليلا، صديقتها الأقرب، هي عنصر لا يقل أهمية عن إيلينا نفسها في النصوص النابوليّة تحديداً، أكثر قوة من المتخيّل، وأكثر ضعفاً أيضاً مما تحتمله الحقيقة. تحب فيرانتي هذه الألعاب. في الروايات الثلاث الأولى، تطغى الكثافة السردية على التفاصيل، وتستفيض فيرانتي في الشرح. قد يجوز القول إنها مدخل إلى ذاتها، لكنها لاحقاً في الروايات المتبقية ستتجاوز ذلك. سيتضح أن ما تقدمه ليس مجرد رؤية نسوية لصخب الطبقة العاملة في نابولي، بأعين الحرفيين والشيوعيين وأساتذة الجامعات، وطبعاً رجال الأعمال الذين تهاجمهم بضراوة، إضافة إلى الزوجات المحطمات في مجتمع الرجال. إنها تقدّم كل هذا في برواز يسعه الوصول إلى أعين الجميع: صداقتها الطرية مع ليلا، وصداقتهما المقطوعة من شجرة نابولي. كل تلك العلاقات الرخوة بين النساء والمجتمع في صداقة تمتد من الخمسينيات إلى القرن الجديد. إيلينا فيرانتي لا تنظّر ولا تتنبأ. إنها كاتبة إن كان للكلمة معنى في زمن التحولات الكبرى في الكتابة، في إيطاليا والعالم. وربما لذلك، ليست بطلة روايات فيرانتي امرأة دائماً، البطلة هي نابولي أيضاً. نابولي هي امرأة بدورها، وهي البطلة. تدفعها الكاتبة إلى التمرد، وأحياناً تيأس من خضوعها وتسخر منها. السؤال الذي يطرحه كثيرون عن هوية إيلينا فيرانتي، يمكن الإجابة عنه بلا تردد، في لحظة تخلٍ إيجابية. إيلينا هي نابولي. نابولي هي الضحية وهي الجلاد.