بيُسر، نرى الحال الجيّد لخوض الكاتبة الشابة زينب مرعي في روايتها الأولى «الهاوية» عن «دار نوفل». حال جيّد في مقاربة واعية للآثار التي خلفتّها الحرب الأهلية اللبنانية على ناس البلد وعلى مقاتليه. الجيّد على وجه الخصوص، ليس انعكاس الآثار والمظاهر الخارجية والوصفية لتلك الحرب، بل سعي الكاتبة الى انتشال ما ترّسب في دواخل خائضي تلك الحرب من اعتلال وتشوّه. جهدت مرعي الى رصدهم عبر شخصية بطل روايتها «سهيل» من خلال حوارية تتردد بينه وبين الشخصية الأخرى «خضر» وهو الأخ الأكبر لسهيل. تعمّدت الكاتبة إفساح حيّز لهذه الشخصية ليلعب دور المرآة عاكساً عبر الحوارات، أحاسيس سهيل وما يجري في دواخله.
اعتمدت المحكية اللبنانية في الحوارات والأحداث
زينب مرعي (مواليد بيروت عام 1986) عملت وكتبت في الصحافة اللبنانية من عام 2005 حتى عام 2015، وهي في عملها الروائي الأول، تلهث وراء سيرة حياة «ضحية» من ضحايا الحرب الأهلية اللبنانية. وقد اعتمدت لأجلها المحكية اللبنانية كحوارات وأحداث، لتأتي مطابقة أو أكثر قرباً من الأهوال التي حدثت حقاً، فلم نستغرب المحكية في معظم فصول الرواية، بل وجدناها الصدى الصادق لمجريات الأحداث التي احتاجت لغة تشبهها. أيضاً، فالعبارات التي تبادلها أبطال الرواية بما هي نافرة وحتى بذيئة في عرف «الأدب»، كان لا بد من استخدامها مع شخصيات كخضر وسهيل، لم يعرفا سوى مفردات الحرب بكل انفعالاتها ومساوئها.
تكتب زينب في سير لحياة آخرين، وهذا يأخذ معنى وجهداً أكثر من كتابة السيرة الشخصية للكاتب أو الكاتبة. هي هنا تملك كل حريتها لأنها تكتب عن «آخرين». ففي كتابتنا لسيرنا الشخصية، نخفي أحياناً جزءاً يسيراً أو قليلاً من حقيقتنا، وننخرط في تنقية سيرنا وتنظيمها، فتأتي ناقصة أو مشوّهة على أقل تقدير.
أمسكت مرعي بسيرة بطل روايتها سهيل بكلتا يديها وحواسها، وولجت عالمهُ، أي جذر الهاوية التي كتبتها مرعي، «الحياة الداخلية للرواية، والوثيقة الإنسانية المرعبة التي أرختها الحرب على الكثيرين منا، والحرب وإن انتهت الآن، إلا أنّ تردداتها ما زالت تستعر في رأس سهيل، حيث تختلط عنده الأحداث والمشاهد والأزمنة».
ثمة ذلك الشعور ونقيضهُ في رأس سهيل المجهد. ثمة التوجس الذي ما زال موجوداً، واختلاط الحب والكره، وهناك الزوجة في التباس علاقته بها، كما الحبيبة القديمة التي يستعيد ذكراها أبداً، ويؤرقه شبحها. سهيل انتهت مراهناته أخيراً واستسلم لحل وحيد، هو الاختباء داخل «بيضة» علّ الوساوس والرؤى تختفي أخيراً، فيحظى بنوم هانئ: «الهاوية لا تعني الراحة أبداً، على العكس تماماً، هي تعني هذا الذي يقف على الحافة فوق، وينظر الى اسفل، والحفرة التي ينظر داخلها عميقة جداً يعرف أنها ستبتلعهُ لا محالة، لكن لا يعرف متى سيحدث ذلك.. متى سيتحطم جسده تحت... بوف! هذا هو المخيف في الأمر».
كلما توغلنا في سطور «الهاوية»، أصبحت الإجابات على أسئلة سهيل أكثر صعوبة، لأن الرواية في إحدى تعريفاتها هي فن السخرية من الحرب بعد وقت من حدوثها. تحضر الحرب، الحزب الشيوعي، الكتائب، الفلسطينيون بكافة فصائلهم، كما تحضر مجزرة صبرا وشاتيلا واجتياح الـ82 ، وأيام سهيل في بولونيا حيث أرسل الى مصحة للاستشفاء على حساب الحزب الشيوعي، وتعرّفه هناك على حبه «هانا»، اليهودية التي بقيت لغزاً، ثم زواج سهيل أخيراً من زهرة بعد وفاة حبيبها محمد في حادث سير في السعودية.
الرواية سوداوية الى حد، لكن الأحداث تبرر سوداويتها. ثمة تفاصيل بقيت حقيقة حدوثها مموّهة وغير معلنة، وغير ممكنة الإعلان في رأس سهيل المريض، ليس لأن سهيل يسخر أو يهاجم أو يبلبل المرويات، بل لأنه ينكر علينا قناعاتنا، ويكشف لنا الحرب على مقاسه ومقاس معاناته فيها، المعاناة القاسية والغامضة والملتبسة.