سأحدثكم عن الغدر هذا المساء من بيده لقمة فليضعها
من أمامه نافذة فليغلقها
ومن يطبخ العشاء فليطفئ النار
واستمعوا الى قصتي
لن تأكلوا بعدها
ولن تشربوا
لن تروا ضوءاً أبداً
استمعوا قبل أن تذهب آذانكم أيضا
سأحدثكم عن حليب الذئب
الذي رضعته فأنبت في قلبي جبلاً صلباً،
وخلف في صدري العواء
وعن يد المشعوذ
تمر على جسدي بالسم وعيني
بالعماء وأنا اقبلها وامسح
على ظهرها بوجهي.

■ ■ ■

ضعوا ما بأيديكم هذا المساء
وأنصتوا جيداً:
تعرفون كم أحب الحياة، كم قلت هذا بأكثر من لغة
حتى إنني تعريت تماماً أمامكم لتروا جلدي
المصنوع من ضوء النهار، قلبي المعجون من التجربة،
ودمي الذي من صلب الأشجار
وأسمعتكم بدل الأغنية مائة، وبدل الضحكة
علقت في سماء كل واحد منكم قمرا
لا يتوقف عن الضحك
الا لحظة تنزلون رؤسكم للموت
فعلت هذا لأنني ببساطة شديدة
أنا الحياة، من عيني تنبع الأنهار التي ترون في كل مكان
من فمي تتدفق المحيطات، وفي صدري صحراء تاه فيها الشعراء والعشاق منذ اول الخلق
وما يزال في جراب هذا القلب ما يدهش
حتى إنه في إحدى المرات
أحب قارة متجمدة
في كوكب لم يطأه أحد
اسمعوا قصتي لتعرفوا ما الذي يحرك الكون كلما توقف
عن الدوران، ولتعرفوا أيضاً أين تذهب
الأرواح حين تغادرنا في لحظة كهذه.

■ ■ ■

ليست قصتي، كتبتها وأنا نائمة
هذا يعني أن على فمي أرواح من حلموا مثلي بالحب، ثم نهضوا في منطقة اخرى، عراة وقلوبهم تنزف
الموت؟ لماذا يقلق راحتكم هكذا، إنه قريب ومدهش
ربما أخيراً نجد من غدروا بِنَا
فاعتذروا أو فتحوا لنا نافذة لنرى
الآلة التي تصنع الشر داخلهم
وسمعنا طقطقة محرّكها.

■ ■ ■

قلت سأحدثكم عن الغدر، الذي هو صديق الحب، لا،
أظنه أقرب، صديق الحياة، لو توقف الغدر، توقفت الحياة، كيف ذلك؟ لأن الذئب حين يتربص بالنعجة، أو الأفعى التي تتسحب بين جسدين، أو الماء حين يتسرب الى قاع المركب
يفعل ما وجد من أجله: القتل الذي هو أصل كل حي،
ما الموت إن لم تكن هناك حياة؟

■ ■ ■

قضيت عشرين عاماً في البكاء على جثتي التي قتلها الحب
لم أنتبه أن في الجثة حياة أكبر مما بي، وأن الحب الذي قتلها
سكنها كالدود ولم يغادرها أبداً، أضاءها
ومنحها الجمال
جثتي كانت أجمل مني، واليوم عرفت أنني أنا الميتة
وجثتي كانت تراقبني وتبكي، تحملني على ظهرها
من شجرة لشجرة ربما انهض
لو سقطت على وجهي ثمرة
أو وطأ قلبي ظل عصفور
عشرون عاما، الميت حي والحي ميت
بقوة الغدر.

■ ■ ■

البارحة وقف الموت مجددا على رأسي
ثم تعب فجلس يقرأ في ملف طبي لشاعر يرقد في السرير المقابل منذ قرون بلا حراك
قبل أن يذهب نظر إلي طويلا
ولم يتكلم
«كانت زيارة لطيفة» قلت، «شكراً مجددا
لأنك تأتي من حين لآخر
لتؤنس وحدتي»،
«شعره جميل»، قال، «حتى وهو يكتب الموت»
ثم وضع قبعته
وانصرف.

■ ■ ■

من بيده سيجارة
من بيده قلم
من بيده وردة
من بيده نهد
من بيده ورقة
ضعوها جميعاً على الطاولة، أفرغوا أصابعكم تماما
مما يشغلها
أحتاجها لأشرح لكم
ماذا يحدث حين يغدر بِنَا الحب وتؤلمنا الذكريات
تخيلوا أصابعكم مقطوعة ومرمية في التراب
أن غرابا رآها فانقض من السماء، حملها وطار بعيدا
وأنكم جريتم وراءه ودماؤكم تنزف ليس لكي
يعيد الأصابع، ليس لأن موضعها بشع
او أنكم تتألمون
بل لتستعيدوا ملمس الأشياء
وجوه من أحببتم، جلد من نام في أحضانكم
شفاه من ضحكوا
شعر ونهود حبيباتكم
لتستعيدوا الكلمات
والورد، والماء.

■ ■ ■

هكذا إذن
يفعل الغدر بِنَا، يقتلنا، لنجرب الموت
لنذهب الى تلك المنطقة المخيفة التي نهرب منها
نؤجلها، وهي معنا وداخلنا
منذ أول الحياة
في نهاية الأمر نكتشف
أننا متنا منذ ولدنا، وأن ما عشناه لم يكن إلا
وجه الحقيقة الآخر،
أو انعكاس المرآة.

■ ■ ■

غدر بي الذين أحببتهم وما زلت أحبهم
غدرت بي الحياة وما زلت أعشقها
غدرت بنفسي، ودائما أشكرها
ولو خيّروني بين حب بمذاق سم الأفعى، وسحر الساحر
ومكر المشعوذ
وبين حب من فم الحمام
لاخترت الاول، الذي به نبقى كالغربان
بجانب جثتنا
نتأملها وتتأملنا، ننتظر موتها لننقض عليها
وتنتظر موتنا لترتاح.

■ ■ ■

عندما لا تجد قبرك تذكر الذي دفنك، الذي أحببت
ماذا يحب ويكره؟ كيف كان يتكلم؟ وأين كان يستريح من التعب
تذكر أي الفواكه أحب إليه لتجد الشجرة
أي البشر هم المقربون منه لتجد ظله
ماذا يقرأ وأين يخبّئُ قلبه
ستجد قبرك حين تعرف قاتلك جيداً
وتألفه
وفي الغالب ستجد الفأس أيضاً والقلم والدم والشعر والحب
بجانبه.

■ ■ ■

امنحوني الآن أعينكم للحظة، كلكم أعمى عن حقيقته
هذا جيد ومريح
كلكم يدور حول نفسه معتقدا أنه كوكب يدور حول شمسه
الشمس هي ما وضعتم في قلوب أحبتكم
ستظلون تدورون وتبحثون، وهي بدورها تدور وتبحث
حتى يحترق احدكم ويسقط رماده
في العيون فيعيد لها الرؤيا.

■ ■ ■

تأخر الليل وأنا أحدثكم عن الغدر، صديق الحب، صديق الحياة
القلب الذي لا يغدر به قلب ميت كما تعرفون
تماما كالبومة التي يخلفها الصياد، فافتحوا قلوبكم للغدر
صدوركم للسكين، دماؤكم للروائح المغشوشة
افتحوا أفواهكم للهواء الملوث، وأرجلكم للطريق
الضائع، دعوا أقدامكم تغشكم فتأخذكم الى المقبرة بدل
حديقة الورود، أعينكم تخدعكم فترون
الشمس نارا، والجدار مرآة، وترون العدو حبيباً والحبيب
أفعى، الشجرة قبرا والتين أطفالا موتى
يتدلون من أرجلهم ويضحكون
دعوا خيالكم يخدعكم، فتذكرون أنفسكم حين كُنتُم
ولم تكونوا أبدا، أو حين تخيلتم البحر امرأة
بشعر أسود طويل فانتحرتم وعلى أفواهكم بسمة
دعوا أيديكم تخدعكم، من لمستم يوما لم يكن أميرا
بل ضفدعا، من تشابكت أصابعكم بأصابعه
كان النهر، وكنتم عصا الساحر ذات لحظة خارقة
فتحت البحر، وأخرجت الميت من قلب الحوت
أنتم الميت، وأنتم الحوت والبحر
دعوا قلوبكم تخدعكم فتأخذكم الى موتكم
وتقول: هذا هو الحب
ماذا في ذلك؟ جربوا
هذا جميل ومريح لمن تعبوا مثلي من الحقيقة الواحدة
الرصاصة الواحدة التي تعود في كل مرة
لتضرب في نفس الموضع لتخلف
نفس الموت ونفس الجثة
ونفس الرائحة.

* شاعرة تونسية