قصة: إيمانويل ليريش ترجمة: عاطف محمد عبد المجيد

للمرة الأولى في حياتي، أسير نحو جهة محددة. أعود إلى منزلي. أنا لستُ مُتعَبًا. كنتُ مُتعَبًا. أشعر بأني على ما يُرام. لم تعد الدموع تتدحرج على وجهي. قلبي ينبض بسرعة. أتلهف على مقابلة أهلي. ومع ذلك، أمشي مشْية طبيعية. أنظر حولي. إنه شيء جميل. إنها مدينة. طريق تحفّه الأشجار. على قارعة الطريق، تتقابل السيارات. هناك رائحة بنزين. الأمر لا يعنيني. نحن في شهر مايو. للسماء زُرقة نحاسية، تتلاشى خلف نتوءات الأسقف. الجو جميل. أكوام من العُشب الأخضر تحيط بالطريق. يبدو الناس وهم يبتسمون لي، كأنهم كانوا يعرفون. في الأنظار، يشدو الربيع ويرنّ الصوت في رأسي.
شخص ما يسألني عن شيء ما. عن الوقت. ما حاجتي إلى الوقت؟ مهما كان الأمر، لم أتمكن من أن أجيب على الشخص. إنه أمر يسير. فضلًا عن ذلك، ليس معي ساعة. بحركة من يدي أشرْتُ إلى شفتيّ. يفهم الشخص. يواصل طريقه، وأنا كذلك. لا أستطيع أن أتكلم. ثمة مشابك تغلق شفتيّ. في أكثر الأحيان، حين يتوجه شخص ما إليّ، أُخْرج من الجيب الخلفي لبنطالي الجينز مفكرتي وقلمي البِك وأجيب عليه كتابةً. يحق لي أن أتساءل من الذي استطاع أن يضع هذه المشابك على شفتيّ. اليوم أستطيع أن أؤكد هذا: إنه أنا، لم يكن يجب أن نبحث بعيدًا. لكن لأي غرض؟ لا أود أن أتحدث عن هذا، إنه ماضٍ. اليوم أحتفظ بكمّ من الإجابات! وكم كانت أطول من أن أنالها! لم يكن سهلًا أن أعثر مرة أخرى على ما أُضيف إلى الشعور، مُشكّلًا هذا الأخير، في العصر الذي لم تكن توجد فيه لغة، ولا ذاكرة أيضًا. لكن لِتُطرد هذه المشابك! عمّا قريب لن يكون هناك مجال للكلام عنها. لأنني أعرف إلى أين تقودني خطواتي. أعرف أنكِ تنتظرينني، برفقة الأطفال. ولد وبنت. إن لم أخطئْ، الأول لديه ست سنين، والثانية لديها أربع سنوات. والشمس تضيء طريقي. أمس أيضًا، كنت أتسكع في الشوارع. بالكاد كنت ألتقط الناس، الذين لم يكونوا ينظرون إليّ قط. كانت السماء سوداء، سوداء بالتساوي، تتوعّد، فيما كان الهواء ثقيلًا. كنتُ ظمآناً، ظمآن جدًّا. غير أن السماء لم تُطْلق ماءها أبدًا، كنت أسير، ثِقلٌ فوق ظهري، وساقاي ثقيلتان. كان القار يغمر العشب الأخضر، المتجمد، والإسمنت يعلو كل شيء، قد شكّل حولي سياجًا دائريًّا، كنت أدور داخله كسمكة حمراء داخل إناء زجاجي. أما الملابس فلم يكن لديّ منها سوى الرثة، كما لم أحلق لحيتي قط. كنت أقصّ لحيتي بزوج من المقصات. وكذلك شَعري. هذا الصباح، حلقت لحيتي، ارتديت ملابس نظيفة، ثم توجهت صوب الحلّاق. منزلنا منزل بسيط تمامًا، به حديقة صغيرة. لكنه في حالة زهو، إنه يناطح السماء الصافية، يبدو متحدّيًا القُوَى الطبيعية التي كانت تتجرأ وتثور عليه. إنه يحمينا. حتى وإن كنت لم أره قط، إلا أنني أعرفه. ثمة جهة ما داخلي تخصه، في ركن منزوٍ داخل روحي الممزقة. كنت أحيانًا أصل إلى أن أخمّن صورته المتلألئة وسط الظلام المتعرج. كنت أصل إلى أن أخمّنكم، أنتم الثلاثة، في الداخل وأنتم تبتسمون لي. لم أستطع أن أفقد الأمل. لم يكن يحق لي أن أفقده. الحياة تنتظرني. تركت الطريق، انعطفت يمينًا. لحظتها ظهر منزلنا. إنه في غاية الجمال، أكابد بعض الصعوبات لِترْك عينيّ هذا الوعد الذي أصبح واقًعا. غير أنه ضروري، يبقى لي شيء أخير عليّ أن أفعله قبل أن أعود. كدت أنسى. أمسك بمفكرتي وبقلمي البِك وألقي بهما في مجرى الماء. لن أحتاج إليهما مرة أخرى. أسير بسرعة أكثر قليلًا، يداي في جيوبي. أشعر ببرودة المعدن في راحة يدي اليمنى. مفتاح المنزل. الذي لن يفيدني. ليس الآن. أنتِ في مأواكِ، أنتِ تنتظرينني. أعرف هذا. قُضي الأمر. أنا أمام الباب. قلبي ينبض بسرعة، ثم في اللحظة التي أحرك فيها المزلاج، يتسارع الإيقاع أيضًا أكثر قليلًا. بعد ذلك يحدث تصادم، يعبرْ صداه كل جسدي. أدخل. حين تلتقي نظراتنا، أشعر فجأة بطمأنينة لا حدود لها. يبطئ قلبي ركضه قليلًا. نتعانق. أسمع ضحكات الأطفال وهم يلعبون في الحديقة. تمسكين بيدي وتقودينني إلى الحمّام. أجلس على حافة البانيو. يحدّق كل منا في وجه الآخر. ثم، ببطء تُمررين يديك على شفتيّ اللتين تلمسينهما ببساطة. بعدها تتساقط المشابك، واحدًا تلو الآخر. آخذ يدك في يدي ثم أنطق الجملة الوحيدة في العالم التي كان لها دائمًا معنًى لم يتغير أبدًا، وستحتفظ بمعناها هذا ما دام هناك رجال. يصل طفلانا ركضًا إلى الحمّام، صائحين بابا! بابا! ثم يقفزان إلى عنقي. حينئذ أنطق أيضًا الجملة نفسها، لكن وأنا أتوجه إليكم أنتم الثلاثة. أفعل كل ما هو في وسْعي كي أحبس دموعي. إنه أسوأ شيء. الدموع هذه تساوي ذهبًا. إنني أبكي.

* إيمانويل ليريش، قاصّ وروائي وشاعر فرنسي ولد عام 1972 في فيتري – سِير – سين ورحل في نوفمبر عام 2011. له رواية ومجموعة شعرية إضافة إلى مجموعتين قصصيتين: «فلسفة الحصى» (2004) و«العودة» (2007).