هناك منّا مَن عايش فترة العدوان الأميركي على فيتنام والتظاهرات التي عمت العالم ضد ذلك العدوان والمطالبة بوقفه، إضافة إلى التضامن مع الشعب الفيتنامي. النصف الثاني من عقد ستينيات القرن الماضي شهد تصاعداً غير مسبوق في الحركة العالمية المعادية للإمبريالية الأميركية. على سبيل المثال، أكبر تظاهرة شهدتها لندن في تاريخها، في ذلك الحين، اندلعت عام 1968 ضد الحرب الأميركية على فيتنام. وكانت قد دعت إليها مجموعة من الشخصيات الشبابية في بريطانيا، وفي مقدمتهم رئيس اتحاد الطلاب في ذلك الوقت طارق علي، والممثلة الإنكليزية العالمية فينيسا ردغريف، وشارك فيها نحو عشرات الآلاف من المتظاهرين السلميين، وكان لي شرف السير فيها.أما الحركة المعادية للحرب في أميركا نفسها، فقد اندمجت مع التحركات المدنية المؤيدة لحقوق المواطنين الأفرو أميركيين. لم يكن التلفزيون منتشراً حينها خارج أوروبا والقارة الأميركية الشمالية، ولم يكن قد دخل كل بيت، فلم نعرف الكثير عن التحركات المدنية في الولايات المتحدة المعادية للحرب على نحو عام، وللعدوان على فيتنام على نحو خاص، لكن الأكثر شهرة وقتها كان الملاكم الأسطوري محمد علي كلاي الذي واجه الدولة الأميركية، بقضها وقضيضها، كما يقال، رافضاً الخدمة الإلزامية والانخراط في الجيش، فدفع الثمن غالياً وخسر لقب بطولة العالم، لكنه ربح نفسه، واحترام العالم.
لكننا نعرف أيضاً أنّ بعض الفنانين والفنانات، ومنهم جوني متشل وجيمي هندريكس وبوب ديلان وعضو فرقة «البيتلز» جون لِينون وزوجته اليابانية يوكو أونو وجوان بايز والممثلة الأميركية جين فوندا، وقفوا ضد الحرب، بل إنّ الأخيرة توجهت إلى هانوي، عاصمة فيتنام الشمالية، مخالفة لأوامر الحكومة التي حظرت السفر إلى تلك البلاد تحت طائلة محاكمتهم بتهمة الخيانة العظمى.
كذلك سمعنا كثيراً عن الطلاب الأميركيين المناوئين للحرب وللعدوان على فيتنام، وتظاهراتهم التي انتهت بسقوط بعضهم جرحى وقتلى على يد الشرطة والحرس الوطني داخل الجامعات الأميركية. ومن رأى صورة الشاب الأميركي الذي أدخل قرنفلة (كانت رمز معارضة الحرب) في فوهة بندقية جندي من الحرس الوطني الأميركي، لن يتمكن من نسيانها أبداً.
معاداة الحرب في أميركا شملت طيفاً واسعاً من الأشخاص والتنظيمات ضمت القوى الطلابية والنقابية المنظمة واليسار وحركة الهبيز ورجالات الكنيسة والأكاديميين والصحافيين والقانونيين والأطباء وقدماء المحاربين من الحربين العالميتين الأولى والثانية.
هذا المؤلف يحوي كتابات تعود إلى تلك المرحلة، لكن ليس إليها فقط، إذ إن المحرر لورنس روزنولد، جمع كتابات معادية للحرب تعود إلى ثلاثة قرون خلت، تؤكد، بلا شك، مدى عمق هذه الحركة وتجذرها في المجتمع الأميركي، وأنها لم تقتصر على معاداة العدوان الأميركي على فيتنام فحسب.
مقالات ورسوم كاريكاتورية ومقابلات وقصائد وخطب دينية وأغنيات

المؤلف صدر عن Library of America، وهي دار نشر غير ربحية تأسست عام 1979 بهدف نشر أعمال كبار كتاب أميركا، سواء كانت أدبية أو غير ذلك. أما المحرر فهو أستاذ اللغة الإنكليزية في «وولزلي كوليدج»، ولاعنفي ومعارض معروف لدفع ضرائب الحرب. كما يعرف عن نفسه بأنه كاتب أغنيات ومؤلف وموسيقي.
أهمية المؤلَّف بحد ذاته تكمن في أنه يضم بين دفتي الغلاف مجموعة من الكتابات السلمية والمعارضة للحرب، أي حرب، ابتداءً من تقاليد سكان البلاد الأصليين، مروراً منذ ما يعرف بالحرب الثورية أو حرب الاستقلال، وانتهاءً بالعدوان على العراق.
يشرح المحرر بنية الكتاب وما تقدمه هذه المجموعة من الكتابات، فيقول إنها تظهر أنّ معارضي الحرب ليسو كما تصورهم الدعاية المعادية: مجموعة من الكتاب الذاتيين الذين يفتقدون الظرف وعديمي الفائدة، وهو ما تعكسه مقولتها بحقهم «ابحثوا عن عمل» (get a job). الكتابات في هذا المؤلف، بحسب المحرر، تتطلب معجماً ثرياً بالمفردات منها: بعيد النظر وتنبؤي وخيالي وشكاك وغاضب وحسي وظريف وغير موقر وبذيء وكسير الخاطر.
يلاحظ المحرر أن معظم «أبطال» أميركا، من جورج واشنطن إلى القنَّاص كرِس كايل، هم محاربون. هذا ما يلخص العقلية المهيمنة في أميركا، وخصوصاً بعد حربين عالميتين. لكن الكتابات في هذه المجموعة تعكس «حرباً على الحرب» في أسطر المؤلف. إنها تحوي استجداءات ومطالبات بوقف الحروب، وكثير من أصحابها عانوا بسبب ذلك.
من هذا المنظور، فإن هذه المجموعة أكثر من مجرد تجميع لكتابات معادية للحرب، يمكن أن تكون تسجيلاً لنمو طريقة تفكير جديدة في الولايات المتحدة.
بعض الكتابات التي اقترح على المحرر ضمها للمجموعة تحوي نصوصًا أدبية وغير أدبية، رائعة المضمون، تحكي عن أهوال الحرب، لكنها لا تعارضها على نحو واضح ولا تدينها. لذا فقد كان دقيقًا في اختيار النصوص، وهي ضرورة أن تحوي معارضة واضحة للحرب والتحريض ضدها.
لكن الاختيار لم يقع فقط على الكتابات المعادية للحرب وإنما أيضاً على الأعمال التي تشمل ذلك الموقف، ومنها الدعوات للمسيرات المعادية للحرب والدعوة لرفض الخدمة العسكرية والمحاكمات التي خضع لها المعارضون للحرب وعانوا بسبب مواقفهم تلك.
أما حدود الأعمال فكانت واسعة ومتنوعة، إذ تشمل مختلف الضروب مثل المقالة والرسوم الكاريكاتورية، إضافة إلى المقابلات والمنشورات والرسائل الخاصة والعامة والمذكرات والقصص والروايات والمحاكاة التهكمية أو البارادويا، والمسرحيات والشِّعر والتماثيل والخطب الدينية والأغاني والخطابات والمعاهدات. المؤلف موجه إلى القراء على نحو عام، لذا فإن المحرر وضع تقديماً لكل مساهم وملخصاً عنه أو عنها وعن أعمالهم.
قد يفاجأ المرء ببعض الإسهامات في المؤلف ومنها رسالة من المجند جون كيري الذي كتب رسالة إلى وزير الدفاع وقتها مكنمارا يعارض الحرب على فيتنام، وقد أضحى لاحقاً وزير خارجية الولايات المتحدة أدار التفاوض مع إيران «لمنع وقوع حرب»، أي إنه انتقل من معسكر إلى آخر. ومن الإسهامات الأخرى تلك العائدة لجانت بنكن، أول امرأة عضو في الكونغرس، التي صوتت ضد الحربين العالميتين. لكننا نجد بين دفتي الكتاب عظات دينية معارضة للحرب تعود لطائفة المرمون، وغير ذلك الكثير.
لقد اخترت هذا العمل للعرض هنا للتذكير بحقيقة أنّ في الولايات المتحدة الأميركية شخصيات وقوى كثيرة ومتعددة التوجهات تعارض الحروب والعدوان، وعلى النخب في العالم العربي، تحرّي هؤلاء الأفراد والمجموعات وطرق أبواب الحوار معهم، بهدف محاصرة سياسات واشنطن العدوانية، وتأسيس لتفاهم بين شعوبنا لما فيه مصلحة الجميع.