عبد العظيم فنجان


أنجزتُ قصائد مجموعتي البكر «أفكر مثل شجرة ـ 2009» على ثلاث مراحل، لكن شرح ذلك يستوجب مقدمة بسيطة، فعلى الرغم من كتابتي للشعر مبكراً، بداية السبعينات، إلا أنني كنتُ عصيا على النشر، بسبب الثقافة الشمولية السائدة يومذاك، وبسبب من ميول غامضة نحو الوحدة.
هكذا صرتُ شاعراً غير معترف به ، إلا في نطاق محدود من الأصدقاء. كنتُ أستعذب هذا الصيت البائس، معذّباً نفسي بهواجس المتوحد، ولعل قرار الهجرة، الذي انتهى بي إلى إيران، في منتصف التسعينات ـ وهي هجرة قسرية، أجبرتني عليها ظروف قاهرة ـ وُلد بمساعدة تلك الميول.
هناك مَن يعتقد أن تعفّفي وزهدي، هو نتيجة لتأثري بسلوك أو بشعر الشاعر العراقي الراحل محمود البريكان، وهو اعتقاد متسرّع، إذ لم أتعرّف على شعر هذا الشاعر البديع مبكراً، لأنني ـ أصلاً ـ مأخوذ ومجذوب إلى شعر جيل الستينات العراقي أولاً، الشعر الفرنسي خاصة ـ العالمي عامة ـ بترجماته الناضجة ثانياً، والشعر الشامي ثالثاً، وهذا ـ ربما ـ يصلح مفتاحاً لفهم شخصيتي الثقافية ولشعري.
هنا لا بد أن أوضح تأثري العميق بثلاثة شعراء عالميين وأساسيين: ميشو، شار، وكفافي، أما بورخس (كذلك بيسوا) فقد وُلد الاهتمام بهما متأخراً، كما لابد أن أذكر: أن النماذج القليلة جداً التي كانت تصل إلينا، في قريتنا الصغيرة ـ الناصرية، من شعر أنسي الحاج، كانت أساسية في توهج جمرة الشعر في كياني، وأكاد أزعم أنني لو كنت متمكناً من قراءة أنسي الحاج بصورة منهجية، في تلك السنوات، لتغيّر مسار شعري إلى الأبد. كما أود أن أضيف بصراحة تامة: إن قصيدة سركون بولص «آلام بودلير وصلت» التي قرأتها، وحفظتها عن ظهر قلب، في السبعينات، كانت بمثابة البرق الصاعق، الذي ولّد إيماني بالشعر كقوة شافية!
هناك سبب آخر ساهم في تمنّعي عن النشر، هو الحظر التام الذي أُحيطتْ به قصيدة النثر في العراق

هناك سبب آخر ساهم في تمنّعي عن النشر، هو الحظر التام الذي أُحيطتْ به قصيدة النثر، إذ شُنت عليها الحرب، من قبل المؤسسة الثقافية، بذريعة أنها مستوردة، أي بمعنى أنها خطرة على الأمة العربية، وعلى تراثها الشعري والثقافي والوجودي، لكنها ـ أي المؤسسة ـ غضّت الطرف عنها في منتصف الثمانينات، أملاً في إشراكها في التعبئة الحربية، مما أنتج نصين متوازيين: نص التعبئة الموالي للحكومة وللحرب، ونص التعمية، الذي هرّب، من خلاله، بقية الشعراء هواجسهم وإشاراتهم المناهضة والمعادية.
كانت علاقتي بالوسط الثقافي مقتصرة على أسماء شعرية وثقافية منتخبة، ومع ذلك كان سؤال النشر قائماً، حتى تمكن أحد الأصدقاء، هو الشاعر محمد تركي النصار، من انتزاع عدد لا بأس به من قصائدي، بحجة الاطلاع عليها عن قرب، لكنه قام بنشرها، من دون علمي، في مجلة «أسفار» العراقية، صيف عام 2003.
القصائد أعلاه كانت النواة الأساسية لكتابي الأول، غير أن الأمر لم يكن بهذه البساطة، إذ أن هاجس العزلة بقي مستحوذاً على تفكيري، لكن الصدفة، وحدها، جمعتني بالصديق الشاعر الراحل جان دمو، الذي أعرفه، مذ كنت طالباً جامعياً، فقد كان هو المحرّض الأساسي لأن أطرد أفكار القطيعة: «لقد تورطتَ: نشرتَ نصوصاً جميلة، وجديدة على الشعر العراقي، فدافع عنها بمواصلة النشر». كانت تلك حكمته بإيجاز شديد، وهكذا كان، إذ قدمت للنشر قصائد أخرى، لكن ذلك لم يستمر إلا لفترة وجيزة، إذ سرعان ما كشّر الليلُ عن أنيابه، فبدأت هجرتي إلى إيران، حيث عشتُ، مهاجراً بدون أوراق ثبوتية، مما ضاعف رحلتي إلى الداخل، وبالتالي مما أسهم بشكل فعّال وجوهري بتطوير لغتي الشعرية، خاصة بعد الاطلاع على أدب العرفان ومقارباته ـ مقارناته، الفنية، الفكرية والاسلوبية، مع أدب التصوف الاسلامي، الذي كنت مطلعاً عليه بشكل واسع، في سنوات الحرب مع إيران.
من مدينة قم الإيرانية، عامي 95ـ 1996، بدأت بالتراسل مع صديقي الشاعر خالد المعالي، الذي كانت مطبوعاته كنزاً كبيراً، بل هي العزاء الأول والأخير في وسط ثقافة غريبة، لا أعرف مفاتيحها، إلا من خلال ترجمات مشوشة، وغير أمينة، مع ذلك فقد أفادتني في التعرف، بشكل ما، على شعر الشاعرة العظيمة فروغ فرخ زاد وعلى شعر سهراب سبهري وآخرين، لكن المراسلات توقفت فجأة، ولم يعد أمامي من منفذ سوى الولوج إلى الداخل. هكذا وُلد قسم آخر من المجموعة، تحت شمس وظلام الآخرين، لكن بهواجس المنفي وشكوكه، وبضياع تام في طرق التاريخ، طرق الطوائف، وطرق الحرية المتعثرة، وقد عبَرتُ عن ذلك في قصائد كثيرة من المجموعة، مثل: «ميتافيزيقيا» و«كتاب النبؤات».
أما القسم الثالث من المجموعة، فقد وُلد بعد 2003، أي في مرحلة الاحتلال الأميركي: مرثية عقيل علي، مرثية سركون بولص، ومرثية السياب، وهي بمثابة ثلاث مراثٍ للعراق.

■ ■ ■


على حين غرة ، في صباح صيفي من عام 2008، وبدون تخطيط، اتصلت هاتفياً بخالد المعالي: «أعرف أن طباعة الشعر خسارة، لكني أريد أن أطبع مجموعتي الشعرية عندك، وسأتحمل التكاليف»، قلتُ له، فأجابني: «الأمر ليس هكذا يا صديقي، فأنا مَن يتحمل التكاليف، إذا كانت المجموعة جيدة. ابعثها، وسنرى».
بعد صدور المجموعة بسنوات، سمعتُ أن هناكَ مَن يزعم أنه كان من وراء اختيار عنوانها البديع، وهو زعم باطل، لأن الوحيد الذي اطلع على مخطوطتها، قبل النشر، هو الشاعر زعيم نصار، الذي أثنى عليها، لكنه اقترح تغيير العنوان فقط، دون أن يقدم بديلاً له، إذ كنتُ قد عنونتها بـ : «حجرٌ يلعق نفسه».
في الحقيقة أن الأمر جرى كما يلي: أرسلتُ المخطوطة إلى خالد المعالي في أكتوبر 2008، وفي نيسان عام 2009 أرسل لي رسالة جوابية عبر الهاتف: «ما رأيكَ لو تغيّر العنوان؟ لِمَ لا تسميها: «أفكّر مثل شجرة»، بدلاً من «حجر يلعق نفسه»؟ ...الأمر لكَ طبعاً». كان يشير إلى عنوان قصيدة، ضمن المجموعة، كنتُ قد كتبتها في إيران، ونشرتها في جريدة «إيلاف» الإلكترونية، بعد سقوط نظام صدام.
ترددتُ كثيراً، اخترتُ عنواناً آخر وآخر وآخر...، ثم في اليوم التالي، غيّرتُ رأيي، وكتبتُ له: «حسناً، فليكن... أفكرُ مثل شجرة».
هكذا وُلد كتابي الأول!