إذا كنت من الذين يرفعون شعلة «الربيع العربي» غير عابئ بالريح التي عصفت بها من كل الجهات، فلن تجد ما ترجوه في كتاب «عاصفة على الشرق الأوسط الكبير» (2015) لمؤلفه ميشيل رامبو، الذي صدر أخيراً عن منشورات «اتحاد الكتاب العرب/ دمشق» (ترجمة لبانة مشوّح)، ذلك أن هذا الدبلوماسي الفرنسي السابق الذي خبر المنطقة جيّداً، يقف في الخندق المضاد، كاشفاً عن خلطة مختلفة لهذا الربيع المدمّر الذي يختبئ وراءه «تعصّب إسلامي من أسوأ الأنواع، ومضخات تمويل وهابية لا تنضب، ودعم ظلامي النزعة، ونزعة عثمانية جديدة تطلق طموحها من عقاله، إضافة إلى عودة ربيع الإمبراطورية الأطلسية التي هاجمها التاريخ فجأة، فتملّكها حنين ما بعد الاستعمار». هكذا بدأت عملية تجميل جماعية لهذا الربيع تحت مسمى نشر الديموقراطية بقوة آلة إعلامية ضخمة مهمتها «تجميل النوايا الفاسدة بمسحة فضيلة»، في شراكة لا تصدّق بين الديموقراطيات الغربية والممالك الوهابية لتصدير الأكاذيب الفظة باسم حقوق الإنسان، والديموقراطية، والرأفة الإنسانية. بهذه الغطرسة العمياء، أطلقت القوى الغربية خطابها الوقح في تبرير زعزعة الخرائط كمحصلة للخلل البنيوي في المركزية الأوروبية التي تتخبط على أبواب تحوّل جذري في مسيرة العالم. في المقابل، وجدت الحركات الإسلامية السلفية فرصتها في اقتناص السلطة في «دار الإسلام»، تحت راية الربيع من جهة، والانصياع لأوامر الإمبراطورية الجديدة المقدّسة التي تحمل اسماً برّاقاً هو «المجتمع الدولي» من جهةٍ ثانية.
تقع سوريا جيولوجياً على أضخم احتياطي غاز في العالم
ينفي ميشيل رامبو أن التسليح المبكّر الذي أعقب الانتفاضات التي اجتاحت العالم العربي أتى كرد على القمع الأعمى الذي مارسته الحكومات الشمولية، معتبراً الاتكاء على هذه الفكرة نوعاً من ألعاب الخفّة، لتزيين «ثورات الربيع العربي» بما ليس فيها، والتي جرى التخطيط لها قبلاً. ذلك أن استراتيجيات الهيمنة الإمبراطورية لم تضع في حسبانها يوماً إحلال الديموقراطية بقدر سعيها إلى تفكيك دول العالم العربي ــ الإسلامي، مرحلةً تلو مرحلة ضمن حركات موسيقية تصاعدية. بدت هذه «الثورات» للوهلة الأولى ثورات برتقالية يقودها أناس لطفاء وعزّل بكاميرات هواتف جوّالة مرتجفة وشبكات التواصل الاجتماعي، يواجهون القمع والفساد والاستبداد «بالياسمين والقات والفول والفستق الحلبي». أمر عزّز صورة محببة لهؤلاء لدى الرأي العام الغربي، فهم علمانيون وليبراليون بلا لحى، لكن الوقائع اللاحقة أطاحتهم خارج اللعبة، وبدت الصورة أقلّ مرحاً باقتحام الإسلاميين المشهد الذين أتوا بشعارات تدعو إلى إسقاط الأنظمة، وفي موجة ثانية حلّت المعارضة المسلحة محلّ الاحتجاجات، فأطاحت وهم إحلال الديموقراطية. فيلم الرعب الذي شهدته ليبيا، كان أنموذجاً صريحاً للربيع المنتظر، فاختفى «المحتجون الظرفاء»، لكنهم ظلوا يلهمون الكتّاب والمحللين لفترة طويلة من الزمن بجماليات الديموقراطية، من دون تفسير لهذا العمى الإعلامي.
ووفقاً للخريطة التي يرسمها ميشيل رامبو، فإن التحضير لمائدة الربيع العربي بدأ قبل هبوب الرياح الأولى «للثورات» بسنوات، بتأهيل آلاف الشباب العرب في أميركا على استخدام التقنيات الحديثة وشبكات التواصل والهواتف النقّالة، ثم أعيدوا إلى بلادهم وتسربوا فيها. شكّل هؤلاء خلايا نائمة لعبت دوراً حاسماً في إطلاق الحركات الاحتجاجية، وإذا بوصفة الديموقراطية العنكبوتية تتكشف عن طبخة تم طهيها على نار هادئة في قدر معدني كبير بوجبات متتالية انتهت إلى «اختلاط اللباس الإسلامي ببناطيل الجينز» ليحلّ ــ بعودة اللحى إلى المشهد ــ الخمار والجلابيب الخانقة محل اللباس العصري «الفاضح». هكذا استعاد المتطرفون الشارع بأسلمة المشهد كليّاً، وفي حركة إيقاعية لاحقة للياسمين التونسي واللوتس المصري، تحوّل ناشطو تويتر بتغريداتهم الوردية إلى كومبارس لمصلحة فاعلين جدد محمولين على شعار «الله أكبر، ورشاشات كلاشينكوف، وقذائف بوزكا». انتهت الثورات الوطنية إذاً على عجل، ليحلّ مكانها زمن التدخلات الأجنبية والعربية والإسلامية، أو «الحروب الصليبية والحروب الجهادية». وبذلك، «انتهى فصل الكرز»، فأصبحت عبارة «ثورات الربيع العربي» في مهب الريح، إلا أن من المؤكد، وفقاً لرؤية هذا الباحث، أنّ هذه الحركة في مجملها «قلبت الفضاء العربي الإسلامي رأساً على عقب، وأخلّت بتوازن العالم بأسره». الفصول اللاحقة كشف وتنقيب وتعرية للخطط الأميركية في زعزعة الشرق الأوسط، قبل أفول الإمبراطورية، ما جعلها أكثر توحشاً. روائح الدم والعنف راحت تطرد عطر أريج الياسمين واللوتس، لتتجه البوصلة نحو دمشق أخيراً بوصفها بيضة القبّان، إذ استثنت إمبراطورية الأطلسي الممالك و«حرّاس الأماكن المقدّسة» من عسل الثورات، وتجاهلت بشكل فاقع «ثورة اللؤلوة» في البحرين، لاستكمال «الفوضى الهدّامة» وتوضيب «منتجات مسبقة الصنع لحقبة العولمة». التطلعات الإصلاحية لمحتجي دمشق «اللطفاء» لم تدم طويلاً، فبعد أسابيع على الحراك بدأت أعمال الشغب والقنص وتخريب المنشآت العامة، و«غوغائية الرعاع وليدة الضواحي الريفية»، بمواكبة آلة إعلامية ضخمة بشّرت باكراً بحرب أهلية، واستدعاء التدخل الأجنبي، لإسقاط النظام. وخلافاً للتوقعات التي أطلقتها الإمبراطورية الأطلسية وأقاليمها الأوروبية، أظهرت الحكومة السورية قدرة مهنية عالية على المقاومة، وإذا بـ«المعارضات السورية» تفقد رصيدها باكراً لافتقادها الشرعية الديموقراطية وانحيازها لأجندات مشغليها، واستعجالها لإصدار قرار أممي على النموذج الليبي. ترافق ذلك مع تصنيع «الجيش الحر» بوصاية أميركية مباشرة، وصولاً إلى إعلان سوريا «أرض جهاد» بقصد استبدال منارة القومية العربية بالوهابية. هكذا تحوّل مهد الحضارة الإنسانية إلى ساحة نزاع عالمي، و«إبادة سياسية» لإنجاح المخطط الإسلاموي ــ الإمبراطوري، بكسر الدولة ــ الأمة السورية وإخضاعها للغرب بوصفها دولة متداعية. أما كلمة السر النهائية، فهي «حرب الطاقة»، فسوريا تقع جيولوجياً على أضخم احتياطي غاز في العالم، وليست مجرد بلد مضياف يشتهر بطبق «كبة نيّة» حسب الخطاب المتعالي للنخب الأوروبية، لذلك فهو يستحق تصدير الديموقراطية إليه مهما غلا الثمن.