جمال القصاص


حين أفكر في ديواني الشعري الأول بعد كل هذه السنوات أعتقد أنني مدين له بكثير من الفرح والألم أيضاً. لقد جعل مني شيئاً، أو على الأقل، أشار بقوة إلى أنه من الممكن أن أكون شيئاً طيباً في فضاء الشعر. لكن لا تخلو متعة الفرح بالشعر من شعور ما بالألم، دائماً يبحث عن ضرورة يتخفى بها. إنه شعور مراوغ يشبه براءة العنف والتوحش في ممارسة الحب. فأنت في تلك اللحظة الجنينية طفل، تختبر شهوتك الأولى، حريتك الأولى، غرامك الأول مع اللغة والعالم والأشياء، كل ما ترجوه أن تظل قدماك ثابتتين فوق حافة الشعر والوجود.. وقبل كل شيء يجب أن تعي بحدس الطفل أن الوقوف على تلك الحافة الشائكة ليس بديلاً عن السقوط في الهاوية، هاوية الشعر والنسيان، والوجود أيضاً.
سمّيتُ ديواني الأول «خصام الوردة»، رسم غلافه صديقي الفنان الليبي عمر جيهان، وصدر بقروشنا الفقيرة، عن دار نشر خاصة، ضمن مشروع لنشر أعمالنا في «جماعة إضاءة 77» الشعرية، التي أتشرف بأنني كنت أحد مؤسسيها مع أصدقائي الشعراء: حلمي سالم، حسن طلب، رفعت سلام.
طبعنا نحو ألف نسخة نفدت في وقت قصير، والمحصلة النهائية كانت احتفاءً نقدياً مشجعاً بالديوان، ولا تزال قصائد به مثل: «غنِّ يا جمال»، «قالت الأشجار»، «لا كونغرس في مصر»، تتردد أصداؤها في مخيلتي حتى الآن.
أما لماذا «خصام الوردة»، وهو عنوان لا يخلو من «لطشة» رومانسية، فلم أفكر في الأمر حينها، ولم يناقشني أحد من الأصدقاء، فقط كان له مردود نفسي مريح في داخلي، ثم ما الضير في هذه «اللطشة»؟! وما زلت أرى أن أي فن، حتى العبث واللامعقول، لا يخلو منها. الرومانسية هي حاضنة الذات ووعاؤها الرخو، لكن ليس المهم أن نملأ الإناء، بل المهم والجوهري أن ندرك طبيعة العلاقة بين الإناء وما يحتويه.
هكذا كنت أفكر بعين طفل، لم تتلوث نظرته بعد بمتاهة الأرض والسماء. لكن الآن يمكنني أن أفهم وأقول: قصدت خصام الوردة بوعي، هو ابن تلقائية الروح والجسد، لم أرد أن أقاطعها، أو أطيح بها من النافذة، حرصت على أن يكون «الخصام» رمزاً ودلالة ومعنى بمثابة جسر شفيف، يربط بين لحظات النمو والذبول، ويوفر لها تربة أخرى، وهواء آخر، يمكن أن تزدهر فيه بحرية أوسع وأعمق.
في ذلك الوقت، كان كل شيء نيئاً، حتى الخطأ نفسه.. قِسْ على ذلك دعاوى الحداثة وما بعدها، التجريب والحساسية الجديدة، الكتابة عبر النوعية، تلاقح الأجناس والأشكال الأدبية والفنية، القطيعة مع التراث والماضي، وغيرها من الأفكار والمفاهيم والرؤى التي راجت في تلك الفترة.
رغم إيماني الشديد بضرورة التجريب والبحث عن دماء جديدة للشعر، فإنني كنتُ وما زلتُ أتوجس من أغلب هذه الأفكار، خصوصاً أنها وافدة إلينا، من بيئة أخرى مختلفة، لها ثقافتها وفضاؤها وأطماعها وآيديولوجيتها، وأنا لا أثق في الآيديولوجيا، لأنها غالبا ما تنطوي على خطاب زائف.. في المقابل دائماً كنت أتساءل: لماذا لا تكون لي حداثتي الخاصة النابعة من تربتي وتراثي، وهما ليسا فقيرين، بل بهما من الثراء المعرفي والوجداني، ما يجعلهما سؤالاً ممتداً في الزمان والمكان.
فتح «خصام الوردة» أمامي كل هذه المرايا، ومنحني فرصة لأضع قدمي بحذر على عتبة غواية التجريب الشعري. حيث طعّمت عدداً من القصائد بمشاهد نثرية لكن الغلبة كانت للنسق التفعيلي، كان إيقاع العروض، هو الأعلى المهيمن على مدارات الفعل الشعري، شكلاً ومضموناً، صوتاً وحركة، حتى في لحظات صمت اللغة وسكون النص. لم أكن أعرف آنذاك أن تشتيت الدلالة، يمكن أن يحمل قيمة فنية، كما أن المشاهد النثرية لم تخلص تماماً إلى ربكتها، كانت بمثابة وجود بالتضايف قفز برعونة أحياناً فوق كتف التفعيلة الأعرض.. لكن في كل الأحوال كان ثمة خيط بالتجريب يشي بشيء ما سيكون له شأن في تجربتي الشعرية.
فتح «خصام الوردة» أمامي مرايا كثيرة، ومنحني فرصة لأضع قدمي بحذر على عتبة غواية التجريب الشعري

ورغم أن ديواني الثاني «شمس الرخام» كان تفعيلياً صرفاً، فإن هذا الخيط سرعان ما اشتد واتصل بقوة لا سيما في ديواني «السحابة التي في المرآة»، الذي رآه بعض النقاد بمثابة حجر مهم في قصيدة النثر المصرية، هنا أخص بالذكر الكاتب الروائي الراحل الرائد إدوار الخراط، والناقد الدكتور محمد فكري الجزار.
أنا قروي، تعلمت من حكمة الأرض أن اللغة ثمرة من ثمرات الطفولة، وألا أستعجل الثمرة قبل أن يحين أوان القطف. لذلك أنمو ببطء، أحب اللعب في منطقة الظلال، لأنها توفر لي مساحة مرنة للذهاب والإياب من وإلى النص، بحيوية المسافر المقيم.
أذكر هنا أيضاً أنه من الأشياء المهمة التي أرساها بعفوية ديواني الأول، وظلت عصباً شديد الحساسية قي تجربتي، أن الشاعر يجب أن يتكئ على نفسه، أن يجعلها دائماً بمثابة مصفاة، ينقّي فيها عصارة المعرفة وتراكمات الخبرة وشوائب الواقع والحياة. لقد برز هذا النزوع بشكل قوي في ذلك الديوان.. لقد غنيت لاسمي، وتمردتُ وانقسمتُ عليه، لأستدعي الآخر الهارب فيّ وأكونَه دماً ولحماً، بعد أن اهتزّت ثقتي وقناعتي به في إطار وجوده الواقعي الحي.
أعرف أنه لا أحد يمنح الشاعر حريته، أو يقرر له مساحة الفضاء الذي سيبدع فيه نصه. في الفن الحرية ليست هبة أو منحة، بل هي سؤال مفتوح وممتد في جسد النص على تخوم البدايات والنهايات، يستعيد كلاهما الآخر ويفيض عنه كصيرورة وجود وحياة لا تنتهي.
هكذا كان سؤال الحرية الحجر الأساس في ديواني الأول، بل كان ظل الحجر يحفر بتروٍّ محبة الشعر في نفسي، لتبدأ حرية النص بشكل أكثر إشراقاً، حتى بعدما تنتهي لغته المكتوبة، يظل يومض ويتكشف كطفل، وينهض، يتنفس صورة العالم، بكل حدوثاته وتقاطعاته اللاهثة المباغتة، كما يشكلها الشاعر ويريدها في نصه أن تكون، لا كما يتصورها أو يبغي لها الآخرون.
قلت مراراً: الشعر يقين ناقص، وهل ثمة يقين أصلاً من دون هذا النقص، لكن إذا لم يكتشف ويحقق الشاعر حريته في فضاء نصه، وفي ظلال هذا اليقين، فعبثاً يستجدي الحرية من الآخرين، لأنها حينئذ ستتحول إلى صك، ووسيلة لتيسير دفة الأمور، وتزويق وجه الحياة، بينما هي أصل الحياة ذاتها.
إذن يا ديواني الأول يا طفلي المشاكس دعني أسأَلْك: ما الذي أعطاني الشعر، وما الذي أعطيته له، وهل علمني أسرار الحياة، ردّني لطفولة الأشياء والعناصر، وهل بصَّرني، كيف من شهوة السؤال أخلق القدرة على أن أرى ما لا يُرى، أن أسمع ما لا يُسمع؟!
ها أنا ذا باسمك، كل يوم، أمشي وراء الشعر، مدن تصحو، ومدن تسقط، أحلم بعصفورة تحلم في شق، بفأر يبتكر حريته في عتمة المصيدة.. أفرح حين تتعثر روحي بقشة، أو تصبح ذرة رماد أفتش في أصابعها عن متاهة الأفق.. أو تتكسر في صدى صوت أمي وهو يباغتني في الحلم: «يا بني هذه الفراغ اسمه الحياة، لا تخجل من نفسك، العبْ مع البنات، ستكبر في حصى الندى وجمر السنوات».
ما زلتُ أكبر، ما زلتُ أصغر، أتعجبُ لرجل اسمه جمال القصاص يبني مجده في سطرين من الشعر، ولا يعرف كيف يضعهما فوق الرف!