يضع سمير قسيمي (1974) في روايته «كتاب الماشاء: هلابيل.. النسخة الأخيرة» (دار المدى) فخاخاً سردية متعددة لاصطياد الجملة الضالة في نظرية الخلق، مزاوجاً بين الوثيقة والتخييل الروائي عبر خرائط هندسية متداخلة تنطوي على تقنيات مختلفة في إعادة ترميم المدونات التاريخية السريّة والملغّزة والمهملة عمداً، نظراً إلى ثراء الوقائع وتعدد الأمكنة وتشابك مصائر الشخوص. اختفاء مجلد من «المجلة الأفريقية» التي يُكلَّف أرشفتَها «جوليان هاد» لمصلحة الأرشيف الفرنسي، مدخل أولي لمعنى العبث بالبحوث التاريخية المتعلّقة بتاريخ الجزائر والبلدان المجاورة لها. وتالياً، إن طبقات السرد اللاحقة محاولة في تحطيم اليقين بحبرٍ مختلف، سيتناوب على تدوينه رواة متعددون بقصد إطاحة التاريخ الرسمي، وإزاحته جانباً لمصلحة هامش مغيّب. هكذا تتأرجح التواريخ فوق حبالٍ كثيرة، ذلك أنّ هذا الروائي الجزائري لا يأنس لسردية واحدة. ما إن تكتمل مروية ما، حتى تطيحها ألغاز أخرى، في لعبة دائرية أقرب ما تكون إلى حركة الشطح الصوفي. ستلتقط ميشال دوبري، الباحثة الفرنسية الشابة أول خيوط الشك، خلال بحثها عن المستشرقين الفرنسيين في الجزائر نهاية القرن التاسع عشر. إذ تنتبه إلى غياب المجلد الحادي عشر من الأرشيف المنشور على شبكة الإنترنت، وإغفال مقال عن حياة مترجم الحملة الفرنسية على الجزائر سيباستيان دو لاكروا، كان كتبه المؤرخ إيمانويل لوبو. وعندما لم تفلح مراسلاتها إلى مديرية أرشيف ما وراء البحار في إجابة شافية، تبدأ رحلتها في اقتفاء أثر هذا المترجم.
يزاوج بين الوثيقة والتخييل الروائي عبر خرائط هندسية متداخلة

عند هذا الحدّ، تبدأ التقاطعات ما بين نص الآخر، والنص المحلي، ولغز اختفاء ألواح ثمودية قديمة عن سردية تنفي التاريخ المتداول لنشوء الخلق، ووجود كتاب سري هو «كتاب الماشاء» يصحح ما أخفته الدراسات اللاهوتية والديانات المحليّة. وقبل أن تفقد ميشال دوبري الأمل في إكمال بحثها، تقع على عنوان البيت الذي قطنه دو لاكروا في مدينة تولون الفرنسية، بعد انتهاء خدمته في جيش الاحتلال الفرنسي في الجزائر. كذلك ستتعرف إلى نوى الشيرازي التي كانت تدير مكتبته، فتمنحها أرشيفه المضاد لسردية الحملة الفرنسية على الجزائر، ودوره في بناء علاقات مع زعماء قبائل محلية، ومحافظته على الألواح السرية التي أودعها لديه «الربيعة» زعيم قبيلة العوفية، وتفسيره للحوادث الغامضة التي لحقت بكل من مسّ هذا الكتاب السري. كأنّ السرّ مخبوء في الصحراء وليس في مدن الداخل، وهو رهان الراوي في نسف ثراء المركز، وإعادة القول الفصل إلى الأطراف، بالتوازي مع خلخلة سكونية العمارة الروائية الأفقية، بضربات شاقولية تبتر أجنحة الطمأنينة إلى حكاية مكتملة أو يقينية، وتذهب المغامرة الروائية أقصاها حين تُسلم دفة السفينة إلى نوى الشيرازي، رغم أنها بائعة هوى، إذ تصحح مسار الحكاية على نحوٍ آخر، حين تسلّم ميشال دوبري مفاتيح ما هو ملتبس في مصير"الوديعة" بعد موت عشيقها بحريقٍ غامض، في تنابذ صريح بين أهواء مؤرخي ضفتي المتوسط. فيما يفضح الرواة المحليون ودو لاكروا نفسه، وقائع الإبادة لبعض القبائل المحلية، وتواطؤ بعضها الآخر مع الغزاة، يسعى بعض المستشرقين إلى دفن الحقائق وتزوير الأرشيف وطيّ عسف الأمس. ولكن لماذا اختار صاحب "تصريح بالضياع" هذه السردية الوعرة في تدوين التاريخ؟ نحن بالكاد نتمكّن من مقاربة تضاريس الحكايات المتجاورة والمتوالدة، نظراً إلى تداخل الوثائق والشهادات وتعدد الأصوات، في نفي اليقين المكتمل، وزعزعة ما هو راسخ في التاريخ الرسمي بتقويضه لمصلحة أسطرة المرويات الشعبية، والطقوس المحليّة، بالمقارنة مع هشاشة اللحظة الراهنة، وتالياً يصعب الركون إلى سردية نهائية في تبويب خرائط التاريخ. فما إن ينتهي عمل ميشال دوبري حتى يتورط مؤرخ آخر هو جيل مانسيرون في تفكيك ألغاز ما هو غامض في المظاريف الأربعة التي وصلته في البريد، في ما يتعلّق بقصة أخرى للبشرية على يد سلالة "هلابيل" الابن المنبوذ لآدم وحواء، متسائلاً: هل الشر اختراع بشري؟ لكننا وفقاً للحبكة البوليسية التي اعتمدها سمير قسيمي، لن نركن لترجمة جيل مانسيرون لـ «كتاب الماشاء» وسيرة نبي مجهول يدعى «الوافد بن عباد»، بوصفها ترجمة نهائية لتواريخ قائمة على التزوير المستمر، سلالةً بعد أخرى، فمنتصر اليوم هو مهزوم الغد، ذلك أن حرائق الأمس وفقاً لمجرى الرواية، عبرت إلى الضفة الأخرى من المتوسط مثل لعنة تطارد الجميع، ليس كتخييل روائي هذه المرّة، بل كوقائع دامغة في نشرات الأخبار.