في فضاء قرية كفر حجازة، على مشارف زمن الأربعينات، وُلد سعيد الكفراوي، حيث تكوّن وعيه الأول على تخوم نهر مليء بالحكايات والأساطير. بعد حصوله المتأخر على جائزة الدولة التقديرية المصرية في الآداب منذ فترة، يتذكر اليوم هذا الزمن البعيد، وهذا الطفل الذي كان «يتعثر في ثوب جدة كانت تجيد الحكي وضرب الأمثال». يسمع رنين صوتها إلى الآن وهي تسحبه من يده، وتباهي قائلة: «لبني يمشي على قدمين». وكانت تنظر للغيطان وتقول: «لولا النور ما كان الظلام، هي حكمة ربك. تعرف الحلو من الوحش، وتعرف الظاهر من الباطن». وأيضاً: «الرحمة بين الناس عدل، واللي قبلنا قالوا الحياة آخرتها الموت». رماه هذا الصوت ناحية عالم حروف، وحكايات «ألف ليلة وليلة»، ثم انفتحت الرؤية على أسئلة عن الموت والحياة والمكان والزمان. أصبح هذا القارىء النهم الذي تزخر مكتبته الضخمة بالمعارف من مشارق الأرض ومغاربها، من تشيخوف إلى هيمنغواي، ومن محفوظ إلى كتّاب أميركا اللاتينية، يتابع شباب الكتاب ولا يبخل عليهم بقائمة قراءات أساسية. التقيناه اليوم وهو يقف وحيداً منتمياً إلى جيل عمالقة الستينيات، متمسكاً بكتابة القصة القصيرة، مخلصاً لذكرى أصدقاء رحلوا بعدما حلموا بتغيير العالم وشهدوا زمن انهيار الأحلام وصاروا موصومين بكتابة الحنين
تأخرت جائزة الدولة طويلاً قبل أن تتوج إحدى قامات جيل الستينيات من الأدباء. إلى أي مدى تحمل بداخلك مرارة هذا الاعتراف المتأخر؟
- تأخرت لأن من كتبت معهم، وعاشرت زمنهم، وخضنا تجربة الابداع معاً، قد حصلوا عليها كلهم تقريباً. هل تأخرت الجائزة لأني لم أدخل زمن الرواية المفتوح على الاحتمالات، الذي يدوي صوته في الأنحاء؟ ربما، وربما لأسباب أخرى! المهم أنها جاءت. جاءت وأنا في الهزيع الأخير من العمر. جاءت وأنا أولي ظهري لكل شيء. صدقيني، أنا أعتبر الجوائز التي تمنحها الدول أو المؤسسات الخاصة في غاية الأهمية ما دامت تتوج بالنزاهة والموضوعية، وتبتعد عن شروط السوق.
كما تعرفين فالجوائز هامة للكاتب. إلى جانب قيمتها المادية، فهي تفتح أمام الكاتب وأعماله فضاء من الصدى الإعلامي، وتمنحه القدرة على المكوث في الضوء زمناً قليلاً. إنها مؤثرة الآن في عالمنا العربي واعتبرتها بعض الدول دعماً للسياسة والثقافة في بلدها. وأنا في الحقيقة سعدت كثيراً بجائزة الدولة المصرية لأنها عطاء من بلد صنع الأبدية، ونحن عشنا على أرضه أعمارنا نحمل قيمته وقدرته على الاستمرار في الخلود.
جيلنا «ابن الثورة» تنبأ بالهزيمة
في شعر أمل دنقل، ومحمد عفيفي مطر، وروايات صنع الله إبراهيم، وقصص مستجاب وابراهيم أصلان ويحيى
الطاهر عبد الله

■ عبر أعمالك القصصية التي تجاوزت الـ12، تناولت الكثير من الموضوعات مثل عالم القرية وعالم المدينة، الحياة والموت، التاريخ القديم المختلط بالخرافة والأسطورة، لكن مع تنوع المداخل إلى عالمك الأدبي، هناك خيط مستمر دائماً من الاغتراب والحنين. إنها دوائر من حنين على مستوى الموضوع وعلى مستوى اللغة. هل يرجع ذلك إلى التمسك بعالم الجذور (عالم الطفولة) التي تمثل الخلاص والملاذ أمام عنف وسطوة المدينة؟ أم يرجع إلى انتمائك إلى جيل حلم بالثورة وتغيير العالم ولم يجن سوى الهزيمة؟
- سألوا مرة صانع الخيال العظيم غارسيا ماركيز: من الذي كتب كل هذه الروايات، فأجابهم: كتبها الحنين. وأول مجموعات القصص التي ألفتها، كتبت في مقدمتها: «محاولة لبناء الزمان الغابر برماد الحنين».
أنا أكتب عن الماضي، عمّا محته الأيام. محاولة للبقاء على ذاكرة يتهددها الفناء. واحد من أهل القصص يصرخ في قصة «قصاص الأثر»: «غايتي أن استحوذ على زمن يضيع». ويكتب الفاضل الكبير المقام د. شكري عياد عن الزمن في مجموعة «سدرة المنتهى»: «الزمن عند الكفراوي كتلة واحدة لا يتميز فيها الماضي من الحاضر أو المستقبل. القصة تتحول إلى تمثال حين يتحول الزمن إلى زمن بئر تتقطر فيه تجارب البشرية التي لا تختلف في جوهرها بين انسان عاش منذ آلاف السنين، وانسان يولد اليوم أو يموت في قرية مصرية. فالولادة والموت أيضاً لا فرق بينهما في الزمن البئر، والزمن البئر هو مفهوم الفنان للخلود والروح والحضارة وتاريخ الانسان». عالم ينشغل بقضايا الوجود الإنساني، ويتفاعل مع المتغيرات التي تصيب وعي الانسان وروحه، لا بد من أن يتضجع بالحنين، لا يختزل ما جرى بما مضى، ولكنه وبألم شديد، يستحضره لأنه عاشه وتأثر به وكوّن وعيه.

■ ألا ترى أن هذه النزعة الموصومة بشجن الماضي لدى جيل الستينيات قد تبعد الكتابة عن متطلبات الحداثة والايقاع الآني اللحظي الذي ينشده الكاتب؟
أنا وبعض الكتاب نكتب الذاكرة القديمة. ونحاول تثبيت ما فات من تلك الذاكرة خوفاً عليها من البدد. أنا لا أفهم ما يجري الآن في القرية المصرية، لكن دائماً ما يأتيني الصوت القديم وعبر الآماد من الزمن، فأحاول كتابته قصصاً وحكايات، في أحيان كثيرة هي الملاذ، والمنطقة الغامضة من الروح بها كتبت هذه القصص في قلب حداثة الكتابة، وأنا أحسن الانصات لذلك الصوت القادم من بعيد محملاً بالشجن والحنين. كأنهم جميعاً من غير استثناء يعانون من فقد ما، يأتي بالحنين: تنقضي الحقبة الليبرالية بكتابها الكبار: نجيب محفوظ ويوسف ادريس وغيرهما، ويأتي الجيل الذي أنتمي إليه، وهو الجيل الذي أطلقوا عليه جيل الستينيات، ذلك الجيل الذي يحمل على جبهته وشماً «انه ابن الثورة». عاش هذا الجيل حقبة انكسار الآمال بهزيمة مروعة في يونيو 67، وهو الذي تنبأ بحدوثها في شعر أمل دنقل، ومحمد عفيفي مطر، وروايات صنع الله إبراهيم، وقصص مستجاب وأصلان ويحيى الطاهر عبد الله. ذلك النظام السياسي الذي عاش حقبة استبدال الزعيم نفسه بالأمة، وبقيم الدولة المدنية، وعاش انكسار حلمه بتغيير العالم، بسبب قمع سلطة الحكم، ثم كانت فترة الصلح مع العدو، والانفتاح الاقتصادي وهجرة المصريين، ثم صعود الإسلام السياسي وتغوله في حياة مصر، ثم حقبة الفساد العظيم في تاريخ مصر المعاصرة، ثم تغير الأحوال وانكسار الذات القومية. لقد عكست الكتابة خاصة أعمال عبد الحكيم قاسم ويحيى الطاهر عبدالله وشعر مطر وما كتبه جمال الغيطاني، كل تلك الانكسارات وصاحبها نشيد من الحزن والتأسي على ضياع الآمال. لذلك كان الحنين فعلاً قائماً في النص الستيني وفي رؤيته الابداعية.

■ الذين يعرفونك عن قرب، يعرفون فيك مهارات الحكّاء الماهر الذي يخرج من جعبته حكايات قديمة من زمن القرية عن مواسم الحصاد ورزق العيال واستدعاء الأساطير واستحضار الغرائب من ضمير الناس الجمعي وحكايات عن روح هؤلاء. تتجلى كل تلك المظاهر في نصك القصصي الذي نقرأه، ما الذي تحققه لك القصة القصيرة ويجعلك تتمسك بها رغم هجر كثيرين لها؟
- دعيني أحكي لك. سافرنا مرة في دعوة إلى باريس. وكان علينا أن نقيم ندوة في مدينة إقليمية فرنسية، وهناك احتشد ناس كثيرون. كان المصريون الأدباء من صفوة القوم. مبدعون ومفكرون وفنانون. كنا خمسة على المنصة للحديث أمام أهل فرنسا المحترمين. ومن سوء الحظ، حدث المصريون الفرنسيين عن مذاهب النقد الحداثية (البنيوية والتفكيكية وما بعد الحداثة). اندهش الفرنسيون وكبس عليهم النعاس، وجاء عليَ الدور وهمست لنفسي بأن هؤلاء لا يدهشهم إلا الحديث عن التراث الذاتي. حين ذلك، حكيت لهم تلك الحكاية: أنا فلاح وابن قرية قديمة، ولي جدة علاقتها بالحيوان تثير الدهشة والعجب، وكانت تلك البهيمة لا تدر اللبن الا على يد تلك الجدة، لا تحلب أبداً، وتحت أي ظروف الا إذا تحسست كف الجدة ضرع البهيم. لظروف ما، سافرت الجدة وغابت ثلاثة أيام. والمدهش أن البهيمة امتنعت عن الحليب، وبدأت تطلق استغاثتها من حبسة اللبن مثل سيدة يمتنع ابنها عن الرضاعة، فتفرغ لبنها في حوض الغسيل. أحضر أبي كل الحلابين في البلد، لا فائدة، قدموا للبهيمة أغلى العلف، لا فائدة، وهي تدور في الحديقة مثل مجنونة. خاف أبي على البهيمة لتروح فطيساً، فاستدعى الجزار الذي جلس على باب الحظيرة في الانتظار وسط زحمة الناس الذين حضروا ليشاهدوا حالة من الغرائب. عند الفجر تقريباً عادت الجدة من سفرتها، وأمام الحظيرة صاحت بعالي الصوت: هو ايه ده؟! .. فيه ايه؟! .. ايه الزحمة دي؟ّ! الجاموسة مالها؟! على صوت الجدة العالي، انهمر اللبن مثل شلال يغرق أرض الحظيرة فيما يكبّر الناس من حكاية تشبه المعجزة! صمتُّ أنا قليلاً، وقلت للفرنساوية: الكتابة عندي تعني من مصدر الصوت حتى انهيار اللبن.
بكت المترجمة كاترين فرحي وهب الفرنسيون وقوفاً يصفقون مدة من الزمن، وادوار الخراط يهتف في أذني «بالله العظيم ما هي قصة حقيقية انت لسه مألفها يا ابن...». وأنا ضحكت وأكدت له حقيقة الحكاية. أعتقد أن ما أحكيه ليس مجرد حكايات، هي أحوال للتعرف إلى الدهشة، واستدعاء ذلك السر الخفي من الروح المصرية.
القصة القصيرة شكل نعبر
من خلاله عن جماعاتنا المغمورة مثلما عبّر تشيخوف عن الأطباء والمدرّسين
وأهل الأرياف

في الحقيقة حين تكون القصة على هذا المستوى، ففي اعتقادي أنّها تقترب من الكمال. وأنا من المؤمنين بأن القصة القصيرة دفاع عن أهوال الحياة والموت، وأنها نبوءة وشكل من خلاله نعبر عن جماعاتنا المغمورة مثلما عبر تشيخوف عن الأطباء والمدرسين وأهل الأرياف، وديكنز عن الفقراء والمشردين، وغوغول عن الموظفين وخدم البيوت، وهيمنغواي عن المغامرين الذين يخسرون بشرف، ويوسف ادريس عن الفقراء الذين يواجهون قمع الواقع وسطوة السلطة.
أحببتُ هذا الشكل الذي لا بطل له، ذلك الجنس المغلق، شقيق الشعر. ذلك الذي ينجح في التعبير عن الناس، وتتصف قصة جيدة منه وتساوي رواية جيدة أيضاً. هذا الشكل يمثل شغفي بالكتابة، ولأن الجميع رحل إلى زمن الرواية وأصبح فضاؤها عارياً من كتّابها العظام، آثرت أنا المكوث هنا، في المكان نفسه، وفي الزمان نفسه. من الذي قال «إن القصة القصيرة الجيدة مثل البذرة التي تنام في داخلها شجرة عظيمة سوف تنمو هذه الشجرة بيننا وتلقي بظلالها على ذاكرتنا»؟.

■ عند حصولك على تقديرية الدولة، عبّرت عن أمنياتك باستعادة الثقافة المصرية دورها الريادي في الابداع والحرية. كيف يمكن استعادة هذا الدور في ظل التهميش المتواصل للثقافة ووجود كاتب شاب هو أحمد ناجي وراء القضبان بسبب روايته؟
- في الحقيقة، كلما نظرت إلى الواقع الثقافي المصري بخاصة، والعربي بعامة وجدتهما يتسمان بقلة القيمة! تختلط القضايا دائماً، بين الذاتي والموضوعي، وينشب الصراع في الواقع حول قضايا صغيرة لا تعني الثقافة ولا تسهم في تكوين رؤية، مع غياب الأسئلة الجوهرية التي تتمحور حول وجودنا. غابت القضايا الكبرى التي اهتم بها طه حسين وتلامذته.
انظري كيف صعد الإسلام السياسي وفرض منهجه وفتاواه وباشر تكفير المختلفين مستدعياً الماضي، وجرى ذلك في غياب مشروع ثقافي حقيقي يسعى لتحقيق سيادة القانون وحماية الدستور، مؤكداً مطالبه بدولة مدنية حقيقية. رحم الله طه حسين وجيله الذين لم يهتموا بشرح النصوص، ولكنهم حرثوا الأرض أمام تنوير حقيقي، يغيّر الواقع من حالة الضرورة إلى حالة الحرية.
أتمنى أن تستعيد الثقافة المصرية دورها التنويري في العلم والفكر والأغنيات والموسيقى، وتقدم منتجاً مصرياً ينتظره مستهلك الثقافة على محطات القطارات، وأن تعود القاهرة والإسكندرية منارتين للعلم والنظافة والمعرفة. أمنيات لعل وعسى في زمن ضاق بمشاكله وتخلفه.