يلامس أحمد دلباني في كتابه «مفاتيح طروادة: كتابات في أزمنة الهويات المغلقة» (دار التكوين- دمشق) أكثر الأسئلة الراهنة إشكاليةً، في محاولة جديّة لتشريح تضاريس الجغرافيات المريضة، واكتشاف مكمن العلّة التي يجدها في «الانغلاق الهوياتي» من جهة، وأفول ميراث عصر الأنوار الأوروبي من جهة ثانية. وإذا بحصان طروادة يتخذ أقنعة متعددة بقصد «احتكار معنى التاريخ». أسئلة الإرهاب والتطرف والإسلاموفوبيا، وفقاً لما يراه هذا الباحث الجزائري، أتت بقوة الهيمنة في المقام الأول، وتالياً فإن ما نعيشه اليوم من أحوال العنف هو نتيجة وليس سبباً «يتحكّم بخيوط الفوضى التي تصنع تراجيديا العالم». بعدسة مكبّرة، يفحص صاحب «قدّاس السقوط» عناصر التخلّف الشرقي بدءاً من مفهوم الحرية بمعناها المعاصر، فهي على وجه العموم نبتة غريبة في تراب الموروث العربي، مما عزّز فكرة الاستبداد بوصفها سلاحاً في مواجهة الفتنة، ونوعاً من «اللاهوت السياسي». وبهذا المعنى، ظلّت الحرية في الدساتير العربية «ذات حضور محتشم»، وهو ما غيّب فكرة المواطنة وحقوق الفرد وواجباته والتعددية الحزبية لمصلحة شرعية الإخضاع هرميّاً. وحتى حين تمكّنت «ثورات الربيع العربي» من إزاحة المستبد، لم تستطع أن تدشّن عهداً مختلفاً في ما يتعلّق بمسائل الحقوق والحريات والدولة المدنية، إذ خرج «مارد الأصولية» من قمقمه، ناسفاً أي مسعى للديمقراطية، ومرتدياً «عباءة المقدّس» في مواجهة خطر التغيير.
ينبّه إلى معضلة أخرى منسية هي مشكلة القمع الجسدي والحرية الجنسية
لم تسقط الجدران العربية إذاً، كما سقط جدار برلين، إيذاناً بنهاية «العقائديات المتصلّبة». ذلك أن الجدران العربية استعادت حروب الماضي وذكريات الصراع الدموي على السلطة «بعيداً عن القراءات التفكيكية المحرّرة من ثقل الذاكرة الطائفية»، فانتصرت «مدينة الله» على «مدينة الإنسان»، مما أعاق أي ثورة معرفية لتقويض «دولة الوصاية» في غياب «احتجاجات العقل النقدي». هكذا تبدو «بلاغة الراهن» ترجيعاً لأوجاع قديمة نائمة منذ القرون الوسطى، وكأن جرعة الحداثة، وأسئلة النهضة اللتين رافقتا مرحلة ما بعد الاستقلال، مجرد مسكّن مؤقت للأورام المقيمة في العمق. وهذا ما يؤكده الدلباني في «كتاب المخاطبات»، قبل أن يشير إلى «هزيمة الثقافة الحديثة» أمام موجة التطرّف التي شكّلت علامة اختلال صريحة في بنية التفكير العربي. إذ تسللت إلى حياتنا من «الشقوق والتصدّعات في جدران مدينتنا الحديثة». وما تنامي مقولة الهوية وانفجار الأصوليات بأنواعها إلا صورة تدشينية في العودة إلى «أساطير البدايات السعيدة» باعتبارها ملجأً للذات الخائبة.
المعضلة الراهنة، وفقاً لفصول هذا الكتاب، تتمثّل في تشويه صورة الآخر عن طريق تحويلها إلى «فزّاعة في الفضاء العام» سواء عن طريق «الإسلاموفوبيا» أوروبياً، أم لجهة عدم قدرة المجتمع العربي والإسلامي عموماً الانخراط بفعالية في خلخلة رواسب «البنيات البطريركية وثقافتها القائمة على الإخضاع وهيمنة الذكورة»، ذلك أنّ «نرسيس» المسلم لا يلجأ اليوم إلى مرآة الماضي إلا كي يعيش العزاء في عالم يشعر فيه باليتم من أبوّة التاريخ. من هنا يبدو أن استثمار الذاكرة على جانبي المتوسطي أتى لتعزيز «استراتيجية الهيمنة» أولاً، وإقصاء الآخر من دون مراجعة عقلانية ثانياً، نظراً لانشغال الغرب الأوروبي بهويته الحضارية المهدّدة من قبل «المتوحش الدموي» وتحصينها بقوة الميديا المضادة لتبرير السيطرة الاستعمارية. ولكن كيف تعامل المثقف العربي مع الميديا الوافدة؟ يجيب صاحب «رمل اليقين» بأن العولمة قدّمت هدية ثمينة إلى الدول الوطنية في صورة «حصان طروادة» أتاح اختراق القلاع الحصينة إيديولوجياً وأمنيّاً، عبر فضاء افتراضي لا يخضع للأنظمة المعرفية المغلقة أو رقابة السلطة، على أن مساحة الحرية هذه، أزاحت المثقف النقدي جانباً لمصلحة المثقف النجم واستدراجه - بعد ترويض خطابه- نحو واجهة السلطة ومراكز القرار وجماعات الضغط لتبرير أفعالها بقوة الشرعية الأدبية والتاريخية والأخلاقية. لن نستغرب أن يصعد إلى الواجهة فيلسوف مدجّن مثل برنار هنري ليفي، أو أن يتخلى ريجيس دوبريه عن خطابه الكوني ملتفتاً إلى «مديح الحدود»، وفقاً لعنوان أحد كتبه، فيما يغيب المفكر العربي الرصين في صناعة خطاب يحطّم الصورة النمطية عن العربي أو المسلم، مثلما ستغيب صورته عن تمثيل الهامش بالمقارنة مع دفاعه عن شرعية المركز، متخلّياً عن «وجاهة المعنى داخل أتون الفوضى الكونية». كما أنه لم يتمكن من حماية «مدينة الإنسان» من عودة البرابرة الجدّد. من ضفة أخرى، ينبّه أحمد دلباني إلى معضلة أخرى ما زالت خارج اهتمام التفكير العربي، وهي مشكلة القمع الجسدي والحرية الجنسية، إذ «ظلّ الجسد يتأوه في دهاليز النسيان، ويعاني من الاستبعاد القسري من دائرة المشكلات الحيوية للفرد والمجتمع»، ما جعل الشباب العربي المكبوت والتائه يلجأ إلى المواقع الإباحية التي حوّلها الغرب إلى تجارة تستثمر في «بؤس المقموعين» في مجتمعات لم تصنع حداثتها الخاصة، وإنما كرّست «ثقافة الاحتراس من الخطيئة» في غياب خطاب «فرويد عربي» يزعزع ثبات الثمرة المحرمة من جذورها الصلبة.