عبدالهادي سعدون


في عام 1996، قررت أن أجمع جلّ ما كتبته من قصص مقنعة لنشرها في كتاب سيكون الأول لي. كنت حائراً وقلقاً أيّ القصص أضم وأيّها أزيح لسبب غير واضح لي آنذاك. على أي حال، لم أكن آنذاك قد كتبت أكثر من عشرين قصة قصيرة اعتقدت أنها ناضجة وتستحق النشر. الشيء الوحيد الذي كنت على توافق تام معه هو العنوان "اليوم يرتدي بدلة ملطخة بالأحمر"، وهو عنوان واحدة من أربعة عشر قصة ضمها الكتاب. كان العنوان تعبيراً عن عشق غريب للعناوين المطولة ومقتٍ للعناوين القصيرة الشائعة في وقتها، وكأني بذلك أردت للعنوان أن يستمر طويلاً بقدر طول كلماته في ذهنية القارئ. وكنت قررت مع نفسي جهلاً بالنشر وعوالم النشر (التي ستشغلني وتُدخلني عوالمها منذ تلك اللحظة حتى اليوم) أن أنشر الكتاب خلواً من علامة دار النشر حتى لو كان النشر حقاً تم عن طريق دار اسمها "المتحدة للنشر" في دمشق. الناشر الذي استغرب قراري لم يعترض طالما أنني دفعت له كلفة طباعة الألف نسخة كاملة وبالدولار، فكان أن ظهر كتابي القصصي بلا أية إشارة لدار نشر تميزه ولا حتى إشارة لمكان الطبع.
الغريب أنني لم أبدأ مثل كل العراقيين بالشعر، بل جاء الشعر والكتابة فيه فيما بعد. كان همي الخالص آنذاك كما هو اليوم أن أكتب قصة متميزة. أما الشعر فلم أقصده إلا فيما بعد وللتنويع ومشاغلة الروح بمسائل أخرى. كنت أعرف أنني أمضي إلى القصة وعوالمها بعينين مغمضتين كأنني واثق تمام الوثوق بكونه ملعبي ورغبتي الحميمة بالتواصل مع الكتابة. مع ذلك، كنت قد نشرت بعض القصائد في الصحف العراقية مدّعياً أنها مترجمة عن الإسبانية. واحدة على الخصوص أتذكرها بعنوان «صلاة في حديقة» لشاعر ابتدعته من مخيلتي من البارغواي اسمه نوداس لودبا، أتذكرها لأنني سأنتشلها فيما بعد لأضمها إلى ديوان قصائدي الأول "تأطير الضحك". غيرها لم أنشر أو أتجرأ على النشر، لذا كنت أمرر كتاباتي عبر غطاء الترجمة المنتحلة. 
عندما وصلت إلى إسبانيا نهاية عام 1993، لم أكن أعتبر نفسي صاحب نتاج قصصي غزير، بل على العكس، لم أكن قد كتبت واقتنعت إلا بثلاث منها من مجموع عشر قصص هي جلّ نتاجي البغدادي، وبالتالي لم يضم الكتاب منها سوى اثنتين، والبقية كلها كتبت في مدريد وإن لم تفارق بغداد والعراق كحدث ومكان وشخوص. في هذا الكتاب كما ستكون عليه أغلب قصصي ورواياتي القادمة، ستكون مدريد مسرح الحدث الرئيسي، وبالفعل ستكون هناك ثلاث قصص تدور أحداثها لعراقيين في مدريد وإسبانيا في هذا الكتاب الأول، مع التأكيد على أن الموضوعة الأساس هي العراق والعراقي المهاجر او المنفي في إسبانيا. القصتان اللتان سلمتا من الفترة البغدادية هما قصة عنوان الكتاب نفسه والثانية قصة "الولد والبنت فوق الطين" وهذه تم نشرها في مجلة عراقية قبل خروجي بسنة ضمن ملف أعده الناقد المعروف حاتم الصكر، وهو يبشر فيه بأصوات قصصية شابة سيكون لها موقع مهم في القصة العراقية. وهما قصتان على أية حال لن تختلفا كثيراً عن بقية قصص الكتاب، فهناك الطفولة وذكرياتها الغامضة والعوالم السحرية المتأثرة قطعاً بالواقعية السحرية الأميركية اللاتينية أكثر من واقعية العراق اللاسحرية! والسبب يدركه أغلب أبناء جيلنا، فقد وعينا وتمرّنا وحلمنا بعوالم ماركيز وكابنتير ويوسا وفوينتس وبورخس وغيرهم، وحاولنا بناء نموذجنا على هذه الاعتبارات دون أن ندرك الخلل والفوارق إلا فيما بعد فترة طويلة من تلك المحاولات الأولى.
أتاح لي وجودي في مدريد فسحة من الحرية كي أكتب ما لم أكن أجرؤ على كتابته أو مجرد التفكير بكتابته في زمن الدكتاتورية الصدامية

إضافة إلى السحرية ومفرداتها وعوالمها التي حاولت أن أقلدها وأستفيد من نموذجها بشكل وآخر، أتاح لي وجودي في مدريد فسحة من الحرية كي أكتب ما لم أكن أجرؤ على كتابته أو مجرد التفكير بكتابته في زمن الدكتاتورية الصدامية. من هنا كنت في صراع ذاتي وخوف لا مفر منه دام معي لأشهر مع تساؤل هو: هل أطرد الخوف وأنشر ما كتبته عن العراق والحروب والموت، أم أتركها لزمن آخر؟. ترددي قطعه لامبالاة الشباب أو الرغبة بالمشاركة والقول والتحدي، أو لنقل بشكل مبسط: الحلم بالإشارة إليك على كونك أحد الكتاب الأوائل من جيلك الذين كتبوا في هجاء التسلط الصدامي ودمويته. من هنا جاءت في أغلب قصص المجموعة إشارة مباشرة بالوصف والاسم لصدام وعبثيته وطغيانه في قصص "نار إبراهيم" و"كلمة معذبة" و"خبر مؤجل"، وأخرى عن الحرب والموت والدمار في العراق كما في "قبة زرقاء" و"صخرتان قرب الحائط) و"أزمنة عائمة"، يضاف إليها قصص الهجرة والخوف والمطاردة وعدم الاستقرار لشخصيات عراقية في مدريد مثل قصص "جريدة المزبلة" و"اخضرار العشب في العينين" و"مقهى عصير الكيوي"، أو تلك المغرقة برمزية تتخذ من الشعرية غطاء لغموضها كما في "حجر الحسيس" أو "رداء بلون الزبد".
التفكير اليوم بهذا الكتاب بعد مرور 20 عاماً على إصداره يقودني بشكل صريح إلى جملة من الاعتبارات لصالح الكتاب أو بالضد منه: لم يطّلع على الكتاب إلا القليل من الصحب والكتّاب. أما العراق نفسه فقد وصلته نسخ مشوهة وأجزاء مقطعة حشرتها في رسائل شخصية كي لا يتم كشفها فيما لو أُرسلت ككتاب كامل. الرغبة الجارفة العمياء لكاتب شاب كي يقول إنه يمكن أن يتحدى ويكتب ما يريده ولن يدرك الأمر إلا بعد مرور العديد من السنوات والأحداث كي يرى نفسه حقيقة دون رتوش، وأن كل ما فعله هو أنه نشر كتاباً لمواضيع خطيرة في زمن خطير دون ان يدرك خطورته المُرة. ثم هناك الإهمال الكبير بتشكيل أسلوب شخصي خاص بك وبأسلوب الكتابة، لا اعتناء بلغة صلبة ولا سلاسة في الطرح أو الشروع بالموضوع بصدق وتفانٍ وتمرين دائم. مع ذلك يمكن القول إن قصة أو قصتين يمكن أن تسلما من كتابي الأول هذا، ويمكن أن تشكلا بذرة مبسطة لما ستكون عليه عوالمي القصصية اللاحقة، والتي ستكون أكثر نضجاً وخبرة ودراية بالحكاية وخباياها كما عليه في كتابي القصصيين "انتحالات عائلة" و"توستالا". 
كل كتبي بما فيها كتابي الأول هي إحالات لعوالم وتزامن أحداث أسرتني للأبد داخل ما جرى معي في العراق وما يجري اليوم فيه حتى وأنا خارجه. دورة أحداث أراجعها وأستل منها ما يساعدني على فهم كل تلك السنين التي مضت علي وأنا أتصفح وأكتب عن البلاد ومصاعبها وأهوالها، كما لو أنني أراجع صفحاتي المنزوعة واحدة واحدة لتشكيل ما يمكّنني أن أفهم ذاتي ومغزى كتاباتي. لهذا فكتابي الأول على الرغم من مساوئه الكثيرة، تبقى له حسنة التنبه من خلاله لما يجب أن تكون عليه القصة الناجحة بالنسبة لي، والكتاب وإن كتب عنه الكثير من المقالات والإشادات، يبقى كتاباً أول كحب أول قد نتجاوزه مع مرور الوقت إلى أنه حاضر فينا وينبهنا على وجوده بين حين وآخر.
في مرة من المرات، قلت في حوار أُجري معي أنني لا أتذكر من كتابي الأول غير غلافه الأحمر (دلالة على نسياني له وعدم عودتي لقراءته أو التذكير به)، وهذا بحد ذاته قسوة لا تفسير لها، وهي في الوقت نفسه نبرة واعتراف غير صادق وإن كان لا يميل إلى الكذب.
واحدة من قصص الفترة البغدادية المنسية هي قصة "الثورة" القصيرة، الصارخة بكل أوجاعنا والمخيفة بمسؤوليتها والتي بقيت إلى الخلف، لم يضمها أي كتاب فيما بعد حتى ضاعت مني. اليوم أتذكرها كورقة جافة أحتفظ بها في ثنايا الرأس، ويُذكّرني بها في كل مناسبة صديقي القاص جلال نعيم، وربما كان له الحق بالقول: إنها القصة الوحيدة التي كانت جديرة بأن تنشر من بين كل قصص كتابي "اليوم يرتدي بدلة ملطخة بالأحمر".