في مجموعتها الجديدة «نحن الذين نخاف أيام الآحاد» (دار الجديد)، تؤرخ الشاعرة اللبنانية رولا الحسين لمفهوم الذات الشاعرة على طريقتها الخاصة من تحويل الانكسارات والانتصارات اليومية إلى دفتر يوميات. إنه عالم شعري طفولي يستمدّ مفرداته من البيئة المحيطة، والاحتياجات الجسدية كأن تقول: «ضرورة الاستحمام بانتظام/ طلاء الأظافر مجددّاً كلّما قشرت أطرافها/ إزالة الشعر الزائد قبل أن ينبت/ مشاركة الكنبة والفكرة/ ممارسة الحب صباحاً/ ممارسة الحب مساءً/ ممارسة الحب صباحاً ومساءً/ هاجس يسبقُ كل قُبلة: هل أنظف أسناني؟».ويبدو أن الذات الشاعرة تحاول بشكل أو بآخر أن تمارس هوايتها المفضلة في الانكماش والعزلة بعيداً عن الواقع، لكنّها تفاجئنا بقدرتها على التحرّش بالعالم ذاته في محاولة لفرض سيطرتها، فتقول: «نحن الذين/ نغرق/ في كنباتنا/ كلّما/ قرع جرس الباب. نحن الذين/ لا نبالي/ بالحزن/ على الغرباء. نحن الذين/ ذهبنا/ أكثر من مرّة/ ولم نعد أبداً». كما يتحوّل الروتين اليومي أحياناً إلى قصائد قائمة بذاتها، فالأشياء البسيطة تصبح صُلب المعادلة الشعرية. إن الشاعرة تقوم بإعادة ترتيب الأشياء حولها بما يتفقُ مع مقتضيات عالمها الخاص، ومن هنا يصبح (البرّاد) كخزانة للمفاجآت غير المنتهية بكل ما يحتويه من أغذية ومشروبات فتقول: «أفتح باب البرّاد/ أتجمد أمام صقيعه/ أمام مطبقياته/ التي صففتها بعناية/ أتحزرُ الهدايا المخبأة لي داخلها».
ترجمة المونولوجات الداخلية إلى قصائد تفيض بالرغبة والعاطفة

لقد حاولت الشاعرة أن تترجم المونولوجات الداخلية إلى قصائد تفيض بالرغبة والعاطفة، فتحوّل هذا البوح السري إلى لغةٍ سريّة لكنّها مفضوحة فتقول: «بكلّ الكلام الذي لن أقوله ولن تسمعه/ والذي ينقّ في رأسي كضفدع/ بعناق يبلعني ويسحق عظامي فأصبح طريّة كغيمة/ باحتمالاتي المخنوقة كصوت مغنية في السبعين من عمرها/ بلامبالاتي التي أتمنى ألا تصدّقها/ أم بالوقت الذي لا أملكه/ والشبق الذي سيرميني بعيداً عنكَ/ وبمحاذاة عادتي الجديدة». لا تخلو القصائد من نبرة هجائية منخفضة تجاه المدينة الإسمنتية الغارقة في الوحدة والرتابة، فالذات الشاعرة في محاولاتٍ متواصلة للتملّص من صدأ الوقت وسطوته فتقول: «المدينة تافهة هذا المساء/ لم يستطع المطر المنهمر ببطء/ كفونوغراف يدور على أسطوانة تلاشى صوتها/ أن يلطّف الوقت/ حانات المدينة جاحدة الليلة/ وأنتَ كأنك في مدينة أخرى وحاناتٍ أخرى».
إن قصائد هذه المجموعة تشبه الجغرافيا الشخصية، فمفرداتها تخصّها وحدها من دون غيرها أمثال: أنبوبة الغاز، وخلية النحل، والأبواب، والساعات المعلقة، والريموت كونترول، والكنبة، وأفلام الرسوم المتحركة، وعلبة الأيس كريم اللايت، والزهور النابتة. لكن يبدو أن هذه الأشياء الصغيرة المبعثرة هي مجرد محاولات هي الأخرى لبث الطمأنينة من حين لآخر. فوجودها ضروري حتى تكتمل اللعبة. تقول الشاعرة: «لا تذهب الليلة/ ابقَ عندي/ لا تبحث عن المفتاح/ لن تجده/ فقد ابتلعته/ اقفز هرباً من الشرفة إن أردت/ اكسر ساقكَ/ أو الساقين معاً/ وابقَ عندي حتى تُشفى/ لكن لا تذهب/ على الأقلّ هذه الليلة».
وبالرغم من أن هذه القصائد يغلب عليها التقشف، إلا أنها تمتلك جماليّة بصرية خاصة؛ حيث تتحوّل الألوان إلى مشهدية شعرية تشبه اللوحات الزيتية. فالقصائد هنا ضربات فرشاة متلاحقة تتبع نقاط الضوء فوق المنحنى الشعري. إن هذه الطاقة البصرية المخزونة تدفع الذات الشاعرة من قصيدة لأخرى أن تختزل مساحة شاسعة من التعابير الملفوظة فكأن القصائد تومض ولا تفضح. ويتّضح هذا الزخم البصري في قولها: «كنّا/ اتفقنا/ على لون البحر/ وقطعنا الكثير من إشارات السير/ واصطدنا نجوماً صغيرة/ لأكواريوم غرفة الجلوس/ قبل أن نطلق سراح أمنياتنا/ من أقفاصنا الصدريّة».
تكمل الحسين ما بدأته قبل مجموعتي «أترك ورقة باسمك وعنوانك ولونك المفضّل» (2005)، و«أتحرك فقط ليكنسوا الغبار تحتي» (2009). إنها قصائد أنثوية رقيقة أحياناً، وحادة أحياناً أخرى لديها خصوصية شديدة تمكّنها من اجتياز حواجز وصعوباتٍ عدّة. إنها صرخة في وجه المجتمع الذكوري والأنماط الأيديولوجية بشكل غير مباشر. ولذلك نجدها تقول: فلنبحث عن شارع آخر/ عن أرصفة وحانات جديدة/ عن شبّان لم نتسكع معهم بعد/ ورجال لم نمارس وحدتنا معهم بعد/ لنذهب يا صديقتي حيث لا يعرف أحد عنّا أي شيء». ربما حاولت الشاعرة أن تجعل من قارئ هذه النصوص جزءاً لا يتجزأ من عالمها الخاص بكل ما فيه من طفولة، وشهوانيّة، وأحزان، وانتصارات صغيرة. لم تعد أحداً بشيء لكنّها تركت بطاقتها التعريفية بين أسطر المجموعة لمن أراد التعرّف إليها؛ إذ تقول: «أنا شاعرةٌ صغيرة/ أشعر بأشياء صغيرة جدّاً/ كظلّ نملة على الأرض/ وصوت طرطقة الصحون في المغسلة/ كساقي عصفور على سلك كهربائي/ وبرودة البلاط تحت قدمي».