كتابة وترجمة: ميادة خليل
في مكتبة الكنيسة البروتستانتية في مدينتي كان ينتظرني هذا الكتاب. مقابل بضع سنتات تضعها في صندوق صغير يعود ريعه للكنيسة، تحصل على كنوز الأدب العالمي. بين الكتب، لمحتُ كتاباً أصفر قديماً، لم يكتب على غلافه شيء، أخذته وبعد ثلاث صفحات عثرت على العنوان، وقرأت الصفحة الأولى ــ بعد مقدمة الكتاب ــ كعادتي في اقتناء أي كتاب. «الحرب» الكتاب عن الحرب. أعدت الكتاب فوراً إلى مكانه. ترعبني هذه الكلمة «الحرب». أهرب منها قدر استطاعتي. أعرف كل شيء عن الحرب. بعد أسبوع، عدت إلى المكتبة ووجدت الكتاب في مكانه. نظرت إليه طويلاً، وقررت شراءه أخيراً. كان هذا الكتاب قدري. الكتاب عن الحرب. عالم مجهول تكتشفه صفحة بعد صفحة. عالم امرأة مجهولة. امرأة استثنائية.
عند الانتهاء من قراءته، بكيتُ كثيراً. «هل هذا كل شيء؟»، قلت لنفسي. كنت أريد أن أعرف هذه المرأة أكثر. أرى وجهها، أتعرف إلى ملامحها، اسمها، خربشاتها، كتاباتها المختزلة الأولى لهذه المذكرات. تخيلتها جميلة وجذابة، امرأة استثنائية. وإلا فكيف يمكن إنساناً أن يشهد كل هذا ويكتب عنه دون كره، دون لهجة انتقام؟
شابة في الثلاثين من عمرها، كتبت هذه اليوميات بالتزامن مع هزيمة ألمانيا ودخول الحلفاء إلى برلين. حاولت استكشاف العدو بدلاً من كرهه، حاولت أن تتعرف إلى وجه الإنسان في هذا العدو، أن تجرده من أسلحته وتراه كما هو. أما حزنها فكان عميقاً، لكنها أهملته، يسقط منها أحياناً هنا وهناك، لكنها لم تعره اهتماماً، لم تقف عنده طويلاً، ليس مهماً أمام آلام شعبها. وفي هذه المحنة أعادت اكتشاف حياتها، ونفسها. كتبت بصدق، بإخلاص، بعدالة وهدوء، ومن شعور بالقوة وليس الضعف.
بشاعة الحرب لا تتغير كثيراً باختلافات الزمان والمكان، لكن تأثيرها يتغير، آثارها إما أن تتفاقم أو تتضاءل وفقاً للمعايير الثقافية والاجتماعية للأفراد.
ما زلت أسأل نفسي إلى الآن، ما اسم هذه المرأة المجهولة؟ هل كانت شخصية معروفة في ذلك الوقت ولهذا تحفظت عن اسمها؟ ماذا حدث لها بعد انتهائها من كتابة هذه المذكرات؟ عندما انتهيت من هذا الكتاب أخيراً، من قراءته وترجمته إلى العربية، لم ينتهِ بالنسبة إلي، بدأ تأثير هذا الكتاب منذ اللحظة التي قرأت فيها آخر صفحة، وظلت مفتوحة حتى كتابة هذه الكلمات.
الحرب لا تنتهي. وكذلك الأعمال العظيمة.
هنا فصول من تلك اليوميات...

* بعد ظهر الجمعة 20 أبريل 1945، الساعة الرابعة.

ليس هناك أي شك في ذلك، الحرب تقترب من برلين.
ما كان فرقعة بعيدة جداً البارحة، اليوم هو هدير مستمر. أنت تتنفس ضجيج البنادق. أذناك صمّاوان، يمكنك فقط سماع إطلاق نيران المدفعية الثقيلة. اتجاه الحريق لم يعد من الممكن تحديده. نحن نعيش في نطاق من المدافع، يضيق كل ساعة.
بين الحين والآخر لحظات من الصمت المشؤوم. فجأة تذكرت أننا في فصل الربيع. بسبب الخرائب المحترقة تأتي رائحة الليلك من الحدائق العامة. جذل الأَكاسيا أمام السينما مليء بالأوراق الخضراء. الآن تحيط أرض محفورة بالمخازن والأكواخ في برلينر شتراسه: بين الهجمات الجوية يجب على البستانيين قضاء الكثير من الوقت في الحفر. وحدها الطيور كانت تقف هذه السنة بارتياب أمام شهر أبريل: ليس هناك عصافير في مجرى تصريف المياه فوق سطوح المنازل.
في الساعة الثالثة جاء صبي الجرائد إلى كشك الجرائد. بضع عشرات من الناس كانوا يقفون في انتظاره. اختفى في غمضة عين خلف كل تلك الأيادي والرؤوس. گيردا، بنت البواب، انتزعت عدداً من إصدارات المساء وأعطتني واحدة.
لا توجد صحف حقيقية بعد الآن، مجرد ورقة واحدة لا تزال رطبة مطبوعة على الجانبين. في طريقي إلى المنزل قرأت نشرة الڨيرماخت (نشرة القوات المسلحة). أسماء أماكن جديدة: مونشبيرغ، زيلو، بوخولز. تبدو كأنها أسماء محرّفة.
نظرة سريعة على أخبار الحدود الغربية. ما الذي نفعله هناك؟ مصيرنا يخرج لنا من الشرق وسوف يتغير مناخنا بشكل مناسب تماماً كما حدث في العصر الجليدي. لماذا؟ كيف حدث هذا في العالم؟ أنت تضايق نفسك بالأسئلة وبلا فائدة. سوف أفكر في هذا اليوم فقط، في المشاكل الآنية.
في كل مكان حول كشك الجرائد تقف مجموعات من الناس، يهمسون ووجوههم شاحبة: «يا إلهي، من كان يظن أن الأمور سوف تصل الى هذا الحد؟».
«لقد اختفى آخر بصيص لنا من الأمل».
وعن غرب ألمانيا: «ليس لديهم ما يخشونه. حصل معهم الأسوأ». كلمة «الروس» لم تعد تُذكر. شفاههم لا تريد نطقها.
عدت مجدداً الى العليّة. ليس بيتي. لم يعد لي بيت. الغرفة المفروشة، التي قُصفت، لم تكن لي أيضاً. لكني طوال ست سنوات ملأتها بجوّي الخاص، كتبي ولوحاتي ومئة شيء وشيء، أشياء جمعتها: نجوم البحر من آخر سفرة لي في نوردرني، الگلیم الذي جلبه لي غيرد من بلاد فارس. مُنبهي المنبعج. صور، رسائل قديمة، كراسات رسم، مجموعة من العملات المعدنية جمعتها من اثني عشر بلداً، قطعة حياكة انتهيت من نصفها ــ جميع الهدايا التذكارية والفوضى التي يجمعها المرء على مدى السنوات.
الآن ضاع كل هذا ولا أملك أي شيء منها سوى حقيبة سفر مع ملابس قديمة، أشعر بأني عارية وخفيفة. والآن أنا لا أملك أي شيء لي.

* الجمعة 27 أبريل 1945، يوم وقوع الكارثة، نشوة الانتصار الهمجية ــ كتبت هذا في صباح السبت.

بدأ اليوم هادئاً. ليل هادئ جداً، وفي منتصف الليل ذكرتنا فرولاين بين بأن العدو توغل حتى الساحات العامة وأن خطوط القتال الألمانية قريبة جداً منا.
لم أتمكن من النوم لوقت طويل، حاولت أن أستعيد لغتي الروسية، أجرب عبارات من المفترض أني سوف استخدمها الآن. للمرة الأولى قلت هذا لشعب القبو، أني أعرف بعض الروسية، وأن من بين الدول الاثنتي عشرة التي زرت كل رسومها وصورها في بضع سنوات، كان أن عثرت أيضاً على روسيا الأوروبية. لغتي الروسية بدائية بالطبع، لغة المنزل والحديقة والمطبخ، التقطتها في طريقي. على أي حال يمكنني العدّ، أحدد موعداً، وأتهجى الحروف إلى حد ما. سوف أتذكر كل شيء بسرعة، التمرين يلوح في الأفق. أنجح دائماً في تعلم اللغات دون جهد. نمت أخيراً وأنا أعدّ الأرقام باللغة الروسية.
نمت حتى الساعة الخامسة صباحاً واستيقظت عندما سمعت جلبة بالقرب من مدخل القبو. كانت هذه زوجة الكُتبي، جاءت من الخارج، أمسكت يدي وهمست: «هم هنا».
«من، الروس؟» كنت بالكاد أستطيع فتح عينيّ.
«نعم. كانوا للتو عند ماير (تاجر النبيذ) قفزوا من النافذة».
ارتديت كل ملابسي، مشطت شعري، بينما كانت المرأة تنقل الخبر لكل من في الملجأ. في بضع دقائق عمّت الفوضى أرجاء القبو.
صعدت وأنا أتلمس الدرج الخلفي إلى الطابق الأول لإخفاء خزيننا الصغير من المواد الغذائية، إن لم يكن قد حدث هذا بعد. أنصت إلى تحطم الباب الخلفي، الذي لم يعد من الممكن إقفاله. كل شيء ساكن، والمطبخ فارغ. زحفت جاثمة إلى الشباك. الشارع المشمس تعرض للهجوم، وسمعت تطاير وأزيز الرصاص. عند الزاوية يظهر الرشاش الرباعي الروسي: أربع زرافات حديدية برقاب متوعدة شاهقة. كان يمشي في الشارع رجلان: ظهور عريضة، سترات جلدية، جزمات جلدية طويلة. سيارات تسير في الشارع توقفت عند الرصيف. هدير مدفع رشاش في الشارع في ضوء الصباح الباكر. الطريق يرتجف. رائحة البنزين تنفذ من خلال النوافد المكسورة وتدخل المطبخ.
عدت إلى القبو. أفطرنا في جو كئيب. التهمت قطعاً مختلفة من الخبز وسط ذهول الأرملة. شعرت بوخز في معدتي. ذكرني هذا بالشعور الذي كان لدي وأنا طالبة قبل امتحان الرياضيات، شعور من القلق والاضطراب، والتمني أن يمرّ كل هذا بسرعة.
ذهبنا بعد ذلك معاً إلى فوق، الأرملة وأنا. في شقتها أزحنا الغبار، مسحنا، نظفنا وفركنا بما لدينا من الماء في الدلو، الكمية ما قبل الأخيرة من الماء. الله وحده أعلم لماذا أنهكنا أنفسنا بهذه الطريقة. ربما من أجل أن تمتد المعاناة أكثر ومرة أخرى لنهرب من المستقبل إلى الحاضر الملموس.
في غضون ذلك كنا نتسلل بين الحين والآخر إلى النافذة لننظر إلى الخارج. وصل قطار الجيش الأبدي وتوقف أمام المنزل. فرسان أصحاء البنية وأمهار بين سيقانهم. بقرة، كانت تخور من أجل أن تُحلب. وبالفعل خزنوها في المرأب على الجانب الآخر من المطبخ العام. للمرة الأولى يمكننا تمييز أنواع الشخصيات، الوجوه: شباب ضخام البنية أقوياء، حليقو الشعر، صحتهم جيدة، غير مبالين. لا ترى مواطنين. في لحظة أصبح الروس فقط هم من يملكون السلطة في الشارع. لكن تحت كل البنايات يجلس الناس يتنصتون ويرتجفون. كان هناك شخص يرسم ذلك، وهو من يعيش في هذا العالم السفلي المخيف في هذه المدينة الكبيرة. الحياة التي تسللت إلى الأعماق، انقسمت إلى خلايا صغيرة جداً، لا تعرف أي شيء عن بعضها.

* الجمعة 11 مايو 1945.

الأعمال المنزلية. نقعنا الغسيل، وقشرنا آخر كمية بطاطا من خزين المطبخ. فرولاين بين جلبت إلينا بطاقات التموين الجديدة. طُبعت البطاقات على ورق الجرائد في ألمانيا وروسيا. هناك نوعان من البطاقات، للكبار وللأطفال تحت سن الرابعة عشرة. وضعت بطاقاتي إلى جانبي وسجلت الحصص اليومية: 200 غرام خبز، 400 غرام بطاطا، 10 غرام سكر، 10 غرام ملح، 2 غرام قهوة الشعير، 25 غرام لحم. ليس هناك دهن. إذا حصلنا على هذا حقاً فهو نافع إلى حد ما. بقيت مذهولة لوجود الكثير من النظام في هذه الفوضى.
رأيت عند البقال صفاً من الناس ينتظرون وانضممت إليهم. حصلت على بنجر وبطاطا مجففة على بطاقاتنا. الأحاديث هنا هي نفسها عند المضخة: الجميع ضد أدولف ولا أحد كان معه. أصبح الجميع مطاردون ولا أحد بَلّغ عن أحد على الأطلاق.
هل كنت أنا نفسي مع هتلر؟ ضده؟ كنت على الحياد على أي حال واستنشقت الهواء الذي أحاطنا به ولوّننا به أيضاً حتى لو لم نرغب بذلك. باريس أكدت لي ذلك، أو بالأحرى طالب شاب التقيت به في السنة الثالثة من عصر هتلر في حدائق لوكسمبورغ. أسرعنا أنا وهو تحت شجرة عندما بدأ المطر بالهطل فجأة. تحدثنا بالفرنسية وسمع كلانا فوراً أن الآخر أجنبي أيضاً. من أي بلد؟ حزرنا ذلك مع كثير من المرح والمشاكسة. لون شعري جعله يظن أني سويدية بينما أنا أصررت على تسميته موناكوي لأن هذا الاسم لسكان موناكو تعلمته للتو ووجدته جميلاً.
توقف المطر فجأة كما بدأ. واصلنا السير وعملت تمريرة سريعة لأضبط سرعة خطوتي على سرعته. ظل واقفاً وصاح: Ah, une fille du Führer ــ آه، ابنة الفوهرر إذن، ألمانية. عرفني بلحظة لأني حاولت السير على خطى الرجل الذي بجانبي.
الآن انتهى وقت المرح والمشاكسة. لأن الشاب قدم نفسه الآن: لست موناكوي، لكن هولندي، ويهودي أيضاً. عن ماذا يجب أن نتحدث بعد؟ انفصلنا عند أول طريق جانبي. هذا الحادث كان وقعه مريراً في ذلك الوقت، كان عليّ أن أفكر طويلاً في هذا الموضوع.




الأحد، 13 مايو 1945.

يوم صيفي رائع. منذ الصباح الباكر ونحن نسمع أصواتاً متفائلة: نفض السجاد، فرك الأرضية، ضرب بالمطرقة. ومع ذلك لا يزال الخوف يحيط بنا، خوف من أننا يجب أن نخلي بنايتنا وشقتنا للجنود. عند المضخة سمعت أن هناك إشاعة مفادها أن القوات العسكرية سوف تتمركز في حيّنا. لم يعد هناك شيء لنا في هذه البلاد سوى هذه اللحظة التي نعيشها الآن. ولهذا نشعر بالامتنان عندما نجلس نحن الثلاثة حول طاولة مفروشة بعناية لتناول الفطور، هير پاولي لا يزال في غرفته، لكنه تحسن الآن قليلاً.
حول برلين تدق أجراس نصر الحلفاء. في هذه اللحظة في مكان ما هناك الموكب الشهير الذي لا يعنينا. قيل إن الروس جعلوا اليوم يوم عطلة رسمية، وإن الجنود حصلوا على الڨودكا من أجل الاحتفال بالنصر. عند المضخة قيل إن النساء يجب أن لا يتركن بيوتهن قدر المستطاع. لا نعرف إن كان علينا تصديق ذلك أو لا. الأرملة هزّت رأسها بجدية. هير پاولي دلك فخذه من جديد، وقال إنه يجب أن يضطجع مرة أخرى. وأنا أنتظر.
وفي الوقت نفسه موضوع الكحول أربكنا. هير پاولي سمع ذات مرة أن القوات الألمانية كان لديهم أوامر بأن لا يدمروا مخازن الكحول، بل يجب أن يتركوها للعدو المطارد لأن التجربة قد علمتهم أن الكحول يوقف العدو ويقلل من عزيمته في القتال. إنه حقاً كلام رجال من قبل رجال ومناسب للرجال. لو فكروا لدقيقتين سيكتشفون أن الكحول يُسخن الجسم ويثير الغريزة (ليس القدرة، كما لاحظت) بشكل كبير جداً. اقتنعت من هذا أنه دون الكثير من الكحول، الذي وجده الروس عندنا في كل مكان، لن تقع نصف حالات الاغتصاب التي حدثت. هؤلاء الرجال ليسوا كازانوفات. يجب أن يُحرضوا وحشيتهم أولاً، أن يتخلصوا من موانعهم الداخلية بالشراب. هم يعرفون هذا أيضاً، لديهم شك على أي حال، وإلا فلن يندفعوا بهذه الوحشية خلف الكحول. في الحرب القادمة التي ستندلع بين الأمهات والأطفال (من أجل الرجال الذين يسعون لحمايتهم) سوف يقذفون كل قطرة فائضة يعثرون عليها من المشروبات الروحية في البالوعة بسبب تراجع قواتهم الخاصة. مخازن الكحول يجب نسفها وأقبية البيرة في الهواء. أو، بالنسبة إلي، يوجهونها نحو شعبهم بسرعة لإحياء ليلة سعيدة. لو أن الكحول كانت بعيدة طالما هناك نساء في متناول يد العدو.



* هامش

امرأة في برلين، مذكرات امرأة مجهولة (Een vrouw in Berlijn) صدر الكتاب لأول مرة باللغة الإنكليزية عام 1954، وصدر بلغته الأصلية، الألمانية 1959، وبالترجمة الهولندية عام 1957. المذكرات تبدأ بتاريخ الجمعة 20 أبريل 1945 وتنتهي بتاريخ السبت 16 – 22 يونيو 1945. كاتبة المذكرات غير معروفة، طلبت عدم ذكر اسمها من الصحفي الألماني سي. ڨي. شيرام الذي أخذ على عاتقه تحرير المذكرات ونشرها. تتحدث المذكرات عن فترة اجتياح القوات الروسية لبرلين 1945. يصدر الكتاب قريباً عن «منشورات المتوسط».