هاتف جنابي


نشأتُ في مدينة ذات طبيعة متباينة متناقضة، لا تعطي نفسها بيسرٍ للعابر. كان أبي تاجراً ومالك أرضٍ في منطقة قروية تبعد عن مركز النجف حوالى خمسين كم. كان ميسور الحال ضيّقها في النهاية. من فرط ارتباطه بأرضه التي تحيط بها المياه، ترك بيته النجفي فارغاً، ونقلني هناك، فترعرعت في سكن عند حافة النهر. كلّ إشارةٍ في كتاباتي للماء والخضرة والطيور والنباتات والنجوم والكواكب والبراءة، مصدره تلك القرية الساحرة. علمتني أول درس للزهد والتأمل وحبّ الطبيعة. اقترنَ هذا الجمالُ أيضاً بمنفاي الأول. في ليلة صاخبة (بسبب صراع دموي مفاجئ بين فلاحي أبي والجيران. كان والدي حينئذ في رحلة عمل إلى مدينة الكوفة) كان على عَمّتي أن تُهَرّبَني تحاشياً لقتلي فنقلتني من البيت إلى الجيران ومنهم إلى كراج المدينة وبعدها إلى النجف في عام 1961. هناك، بدأت فترة حساسة ومعقدة بمواجهة المدينة، بحياتها الاجتماعية وطقوسها الخرافية، وطبيعتها الصحراوية، بحيث جعلتني شخصاً يعيش على الحافة دائماً، في عوالم غرائبية، بين الموتى والأحياء. رحيل أبدي نحو المقبرة، وجحافل تتضرع للإمام بأن يشفع لها ويقضي حاجتها. في تلك الأثناء تدهورتْ حالةُ والدي المادية، رغم ذلك أصرّ على مواصلتي الدراسة. كان عليّ أن أعوّض ذلك بالقراءة والتأمل وتدوين ملاحظاتي الشخصية واقتباساتي التي شكلت فيما بعد منفعةً وعادة لديّ. كانت أمّي والطبيعة والطقوس منبع إلهامي.
شرعت مبكراً بارتياد مكتبات تلك المدينة الغنية، فاطلعتُ على بعض كنوزها الأدبية والتاريخية والدينية، في اللغة والأدب والتصوف. عملياً، كنت أعود من المدرسة للبيت، ومزاولة هواية القراءة التي عوّضتني عن الحرمان وشظف العيش. كانت تلك الفترة بمثابة عزلة كليةٍ فرَضَتْها الأقدارُ عليّ، حتى أغورَ في مكامن النفس. كنتُ أرتاب وأشكك في كلّ شيء. من كثرة الموتى صارت مقبرة «وادي السلام» مكاناً لا يمكن تجنّبه، شعرياً، وكانت قراءة القرآن والكتب الدينية والصوفية والأدبية، تجري في فضاءين: مرقد الإمام علي، ومكتبات المدينة الخاصة والمكيّفة. في تلك الأجواء تشكلت مخيلتي الشعرية، ونمتْ في داخلي نزعة عدم الوثوق بالمألوف، وكأنها ردة فعل على واقع ملتبس، والنفور من شتى أشكال التكتلات، والتجمعات الأدبية وسواها.
حينما قُبِلتُ سنة 1967 في «كلية الآداب» (جامعة بغداد)، كنتُ مهيئاً نفسياً للمضي في طريق الكتابة. خلال سنتين كنتُ أتنقل للسكن لدى المعارف حتى أنقذني القسم الداخلي. لم يكنْ لي من منقذ آنذاك يُخففُ عذاباتي وتطلعاتي، غير صحبة الكتاب وممارسة الشعر والقصة، وبعض النقدات التي نشرت في الصحافة العراقية.
انقضّ عليّ الشعرُ باعتباره المخلص والشافي وجودياً، سعيت مراراً للخلاص منه، حتى أبي كان يقول لي: «يا ابني، سمعتُ أنك تكتب الشعر، ثقْ، ستبقى حافياً طوال حياتك»! في مقابلة لصحيفة «التآخي» أو «العراق» مطلع السبعينات، قلتُ: سأهجرُ الكتابة إذا لم أحققْ فيها شيئاً، لكنني لم أفِ بوعدي بعد أنْ ابتلعني عالم الشعر والكتابة. وقلتُ أيضاً: نحن الشعراء الشباب كأعواد الثقاب في محطة تعبئة الوقود، لذلك يحاصروننا نشراً وطباعة. فاستجابتْ رئيسة تحرير «المثقف» الشهرية آنذاك بدعوتي للنشر لديها، ولم أستفدْ منها.
كانت كلية الآداب فضاءً مثالياً للمهرجانات الشعرية، والمماحكات واللقاءات والغرام والتجارب الأدبية وحتى السياسية. كنتُ محظوظاً بالذين درّسونا في قسم اللغة والأدب العربي، أمثال، نازك الملائكة، ود. فاضل السامرائي، وإبراهيم السامرائي، وعاتكة الخزرجي، وعلي عباس علوان، وبجوارنا، كلّ من د. علي جواد الطاهر، ود. عناد غزوان، ود. مهدي المخزومي وآخرون. في 1968 أهدتني زميلتي (عفاف) نسخة من الكتاب المقدس فأثّرَ فيّ كثيراً. كان جيلي يعيش في مفترق الطرق، فكرياً وسياسياً وأدبياً (بعد تجربة ما يُعرف بجيل الستينات الشعري الصاخب الذي ادّعى لنفسه الكثير، واتضح بعدها، عبر قسط من نتاج غالبيتهم، أنها ارهاصات عربية لانعكاسات وتجارب غربية). تعرفتُ آنذاك على شعراء وأدباء وفنانين معروفين وأكبر مني سنّاً وتجربة، منهم من قُتِلَ أو شُرّدَ أو صمتَ شعرياً، والبعض الآخر ما زال نشيطاً، خاصة الذين تخرجوا معي أو قبلي بقليل. شاركت لأول مرة في مهرجان كلية الآداب الشعري السنوي، في دورة سنة 1971 بقصيدة شرسة، في ست صفحات، كادت تقودني للسجن، لولا أن الشاعر المرحوم عزيز السماوي الذي كان يجلس في قاعة ساطع الحصري الغاصة بالحضور، أنقذني بعد أن قطع (ممثلو الاتحاد الوطني لطلبة العراق) الميكروفون عنّي مراراً، فقادني بعد إلقائي مباشرة خارج القاعة وأشارَ عليّ بالتغيب عن الجامعة لأيام حتى تهدأ العاصفة، ففعلت ما أشارَ به عليّ. لم أكنْ مرتبطاً بحزب، لكن نشأتي في بيئة محافظة زرعت في داخلي نزعة تمردية، وكُرْهاً للظلم وللسلطة، جعلني بعد تخرجي من الجامعة في 1972 قريباً من المعارضة اليسارية عاطفياً، وبسبب شكي وجموحي، وَضَعْتُ بيني وبينها منذ مطلع الثمانينات مسافة، وَقَتْنِي من دوغما الأحزاب والآيديولوجيات.
قدمتُ مخطوطة ديواني الأول «من هنا البحر إنني بانتظاركم» لوزارة الثقافة والإعلام العراقية، لكنه لم يصدرْ لأسباب «غير فنية»

بعد تخرجي من الجامعة في 1972 ساقونا للخدمة العسكرية الإلزامية، فكانت تجربة مريرة حقاً. نسّبونا بعد فترة تدريب غبية، إلى كتيبة الدبابات التابعة للفرقة الخامسة في صحراء الزبير. كانت تُحيط بنا الشبهات ويتربص بنا المحقُ في أية لحظة، نظراً لعدم انتمائنا لحزب البعث الحاكم. بعد إنهاء الخدمة في 1973 ورغم الوساطات عَيّنُوني مدرساً في كركوك، فكان ذلك بمثابة منفى لي، لكنّ هذه المدينة وخصوصيتها الموزائيكية وتواصلي مع المعارضة غيرت مجرى حياتي تماماً، لأنها سَهّلتْ لي الخروج من العراق عبر زاخو في 17 آب 1976، فكان هذا هو المنفى الثالث في حياتي الذي بعثر خططي وأعاد ترتيبها من جديد. صادقتُ فيها القاص جليل القيسي والشاعر جان دمّو وآخرين. بعدها حصلتْ قطيعة تامة مع العراق، وجرى تغييب اسمي ثلاثين سنة! ولم أعدْ إليه إلا في 19 آب 2009.
كنتُ أتحاشى النشرَ المبكر. أتذكر أن الناقد ماجد السامرائي طلب مني في 1970 بعض قصائدي، وفاجأني بنشرها، في «صحيفة كلية الصحافة» التي كان مشرفاً عليها، فكانت أول قصائد تنشر لي. بدأت حياتي الشعرية بكتابة القصيدة العمودية، وهجرتها مطلع السبعينات، لأنصرفَ إلى قصيدة التفعيلة، فكتابة النص المفتوح، فقصيدة النثر، فالمزاوجة بين الإيقاعات، فممارسة إيقاعي الخاص. في 1972 كتبتُ قصيدة تفعيلة طويلة نسبياً هي «العزف على الجمجمة»، نشرتها مجلة «الرابطة الأدبية» في النجف في 1973، فأثارت نقاشاً وصدى ظل يلاحقني طويلاً. في السنة ذاتها، بعد اقتراحات من بعض الأصدقاء، قدمتُ مخطوطة ديواني الأول «من هنا البحر إنني بانتظاركم» لوزارة الثقافة والإعلام العراقية- سلسلة كتابات جديدة، فنشروا في وسائل الإعلام المحلية خبرَ قرب صدوره، لكنه لم يصدرْ لأسباب «غير فنية» كما قال لي الروائي عبد الرحمن الربيعي المسؤول عن السلسلة بحضور ضيفه الروائي برهان الخطيب القادم من موسكو آنذاك. عندما سمع الناقد ماجد السامرائي بالخبر امتعض وطلب منّي إجراء بعض التحويرات على المجموعة، فقدمتها بعنوان آخر هو «محاولة ثالثة» لكنها لم ترَ النور إطلاقاً، بيدَ أنه أخذ مني قصيدة «الحرب- الحلقة المفقودة» قبل سفره إلى دمشق، فعرفت أنها نشرت في صيف 1974 في مجلة «الموقف الأدبي». ونشر الشاعر شاكر لعيبي في 1974 عموداً في «الفكر الجديد» أو «طريق الشعب»، يبدي استغرابه واحتجاجه لعدم نشر كتابات شعراء شباب أثبتوا جدارتهم، وكان اسمي في مطلع القائمة.
ساقتني الأقدارُ إلى بولندا التي دخلتها في 24 آب 1976. انكببتُ على تعلّم اللغة البولندية بحيث صارتْ نافذتي الجديدة التي أطل منها على نفسي والعالم. كنتُ أدْرُسُ المسرحَ، وأكتبُ، وأقرأ بنهمٍ، وأترجم، وأرسل قسطاً يسيراً إلى بيروت والكويت وسوريا والقاهرة للنشر. في 1979 سنحتْ لي فرصة العمل محاضراً في معهد الدراسات العربية والإسلامية في جامعة وارسو ففرحتُ. كان الدكتور يانوش دانيتسكي- المستعرب الباحث والأديب الحيوي، يعمل هناك وبمجرد قراءته لبعض قصائدي، شرع بترجمتها إلى البولندية، فصارَ حصادُه عشرين قصيدة، نشرتها «دار الشرارة» الحكومية بعنوان «كتاب الشرق» (1983) وأثار نقاشأً واهتماماً في الأوساط الأدبية البولندية التي توسّعتْ علاقتي بها. كتبَ الناقد ورئيس اتحاد الأدباء البولنديين فيما بعد الدكتور بيوتر كونسيفيتش مقالة عنّي لمجلة «رازم» قارنني بالكاتب البريطاني البولندي الأصل جوزيف كونراد. وامتدحني نقادٌ وشعراء بولنديون آخرون، الأمر الذي شجّعني على الكتابة بالبولندية أيضاً، والمشاركة الفعالة في مهرجاناتهم المحلية والعالمية. فنشرت فيها أكثر من ثمانية كتب وعشرات المقالات والحوارات. كانت بولندا بالنسبة إليّ بلسماً ومنقذاً من الدمار. لكنها بحكم لغتها غير العالمية وموقعها الجغرافي، جعلتني أعيش على الحواف، بعيداً عن مراكز النشر العربية، والأضواء. مع ذلك كانت فرصة ثمينة للتعرف على تجارب أدبية ومسرحية عالمية، وشخصياً على شعراء وكتاب من مختلف القارات، وربطتني صداقاتٌ بفضلها مع أميل حبيبي، سميح القاسم، وأدونيس، وإبراهيم الكوني، وأحمد سليمان الأحمد، وخالدة سعيد، وأحمد عبد المعطي حجازي الذين زاروا وارسو مراراً.
كان ديوان «كتاب الشرق» فارقة مغايرة للمألوف في حياتي الأدبية، دفعني لأن أشتغلَ بلا هوادة على تطوير لغتي الشعرية وأفكاري وثقافتي. تبعتْ التجربة البولندية، محطتان مهمتان: الجزائرية (1985-1988) والأميركية (1993/1994)، نجم عن الثانية ترجمة مختارات شعرية للإنكليزية بعنوان «الأسئلة وحواشيها» (جامعة أركنساس الأميركية 1996)، ونشر بعضها قبل صدورها في مجلات مهمة، وفوزي بجائزة الشعر العربي المترجم إلى الإنكليزية (1995)، بترجمة الشاعر خالد مطاوع.
الغريب في كل هذا أن أول كتاب شعري لي بالعربية صدر سنة 1998 عن «دار المدى»، وحمل عنوان «فراديس أيائل وعساكر»، وضمّ أربعة دواوين شعرية!