لن تكون عابرة حالة الود والابتسامات الحقيقية المتبادلة بين رجل شرطة ومواطن عادي في العاصمة الكرواتية زغرب. سيتكرر ذلك على طول المسافات الفاصلة بين مدن مختلفة واقعة على جغرافيا البلقان. ستكون تلك الملاحظة إشارة تقول إنّ «كلا الطرفان يشعران بأمان تجاه الآخر» على العكس من الحالة العربية التي يغلبها منطق الأمر والنهي كطريقة لتسيير العلاقة الشائكة بين رجل الشرطة والمواطن، وقد كانت سبباً في اندلاع الانتفاضات الشبابية بداية من تونس ووصولاً إلى القاهرة.ستأتي طبيعة العلاقة بين طرفي السلطة ومواطنيها لتكون مثالاً على أشكال مقارنات ستتكّون على نحو تلقائي طول رحلة الكاتب الجزائري سعيد خطيبي على خط مدن البلقان وصولاً إلى أرض الصقالبة أو من يُطلق عليهم السلاف، ونحو بحيرات سلوفينيا الى فضاء كرواتيا، ومن أزقة البوسنة والهرسك القديمة إلى صربيا، وصولاً إلى أوكرانيا ليخرج كل هذا في رواية «جنائن الشرق الملتهبة ــ رحلة في بلاد الصقالبة» (دار السويدي، «المؤسسة العربية للدراسات والنشر»- أبوظبي).
مشاهداته جعلته يسترجع صوراً من «سنوات الارهاب» في الجزائر

يقول خطيبي إنّ الرحلة من الأساس لم تكن لإنتاج كتاب، بل كانت محاولة من جهته لتأمل كيف يعيش الناس هناك حياتهم، والغرق في تفاصيلها بهدف إعادة اكتشاف الذات لا أكثر. لكن سلسلة المقارنات التي كانت تتوالى تباعاً، مع كل مسافة يخطوها إلى الأمام على تلك الجغرافيا ولم تكن في غالبيتها نقاط اختلاف بقدر ما كانت تفشي بمساحات تشابه كثيرة ساهمت في دفع تحقق هذا الإصدار وجعله واقعاً. إلى جانب هذا، تظهر الرغبة في نقل صورة عن تجربة التعايش التي نجحت بعض تلك المدن في فرضها على الأرض بعد أوقات طويلة من الاقتتال الداخلي ونسيان كل ذلك وجعله في أرشيف الماضي. لكن مع هذا، تبدو بعض الأحزان عصية على النسيان كما هي الحال مع أهالي سربرنيتسا الذين «لم ينسوا فظاعة صيف 1995 وما زالوا يستحضرون ذكريات الراحلين وأرواحهم بمناسبة وبدون مناسبة».
يصف أمير (37 عاماً) الذي يمتلك محلاً صغيراً للمأكولات السريعة، حال المدينة بأنها ما زالت تعاني، وأنّ الجميع من مسلمين ومسيحيين، كانوا يعيشون معاً منذ قرون، حتى مجازر 1995 «حين تخلّى العالم عنّا وبقى متفرجاً على دماء أهالينا التي سالت بغزارة»، وشكّل هذا جدار فصل بينهم.
وفي المدينة نفسها، يقوم كل بيت صربي بتعليق علم بلده في محاولة لاقناع الآخرين أن البلدة ما زالت صربية، وكل بيت بوسني يقوم بالأمر ذاته «كما لو أن الحرب لم تنته». على هذا، لم تكن مصادفة أنّ بناء أهل سربرنيتسا لمقبرة ضخمة هي أول ما يراه الداخلون إليها كأنهم لا يريدون النسيان كما تذكير الآخرين بما حصل. وفي واجهة المقبرة، هناك نصب رخامي بارتفاع متر ونصف المتر بشكل نصف دائري وبطول نحو 200 متر، كتبت عليه أسماء أكثر من 6000 ضحية ممن سقطوا في يد جيش صرب البوسنة الذي كان يقوده راتكو ملادتيش المُلقب بـ «جزّار البلقان». كان لهذا أن يدفع بذاكرة خطيبي لاسترجاع صور من «سنوات الارهاب» في الجزائر في تسعينيات القرن الماضي، فظهر الأمر كأن «الجزائر والبوسنة قد اتفقتا على فترة واحدة لعيش تراجيديا مشتركة».
وعند الوقوف عند أسباب تأخر حصول النسيان ولو بشكل جزئي لدى الضحايا، نرى إصرار صربيا على عدم الاعتراف بما حدث في سربرنيتسا وتوصيف ما حصل بالإبادة أو التطهير العرقي بحسب ما أكدته محكمة الجنايات الدولية. تقول ليلى (25 عاماً) إنّه في الماضي، كانوا يشهدون زواجاً بين عائلة بوسنية وأخرى صربية. أمّا اليوم «فلا هم منا ولا نحن منهم». مع هذا لا يتوقف أهل المدينة عن محاولة صناعة الفرح لأنفسهم عبر مهرجانات ثقافية وعروض سينمائية صارت منتظمة على نحو دوري، وتتم فيها دعوة مشاركين من الخارج بهدف تثبيت استمراريتها وضخ دماء جديدة في عروقها.
هكذا تتوالى الحكايات وتخرج إلى الواجهة مع كل انتقال من منطقة إلى أخرى لتبدو على هيئة نهر ممتد من السرد لا وصفاً سياحياً على عادة ما يكون مع هذه الرحلات. من هنا، تبدو مفهومة حالة "الرواية" التي ظهرت بها «جنائن الشرق الملتهبة» كما يقول خطيبي، مؤكداً أنه سار على آلية الاشتغال ذاتها عند إنجاز روايته «كتاب الخطايا» (2013) مع زيادة بذل جهد في عملية التأكد من صحة التواريخ وخلفياتها السياسية كما حصلت فعلاً.