كان «الهجوم السداسي» تعريفاً ابتكره الأكاديمي وعالم الاجتماعي المصري البارز والسجين السابق سعد الدين إبراهيم، ليصف به الأسلوب الذي كان يفضله نظام مبارك في تهديد أو اصطياد المعارضين من دون أن تتلوث يداه. «الهجوم» معروف، أما «السداسي» فهو نسبة إلى عدد الأجهزة «غير السياسية» التي يسلّطها النظام على خصومه لإزعاجهم، تخويفهم، أو حتى سجنهم. وتبدأ تلك الأجهزة ـــ طبقاً لإبراهيم ـــ بمصلحة الضرائب وأجهزة التأمينات والرقابة بأنواعها، وصولاً حتى إلى أجهزة «الأمن الصناعي» التي قد تجد لدى المؤسسة «المزعجة» نقصاً في معايير السلامة، ما يتطلب إغلاقها إلى ــ غالباً ــ أجل غير مسمى.
وجدت «دار ميريت للنشر» في مقرها فريقاً آخر من الشرطة بسبب اتهامها
بـ «طباعة كتب بلا أرقام إيداع»

وبالعودة إلى الزمن الحاضر، فقد شهد الأسبوع الأخير من عام 2015، «هجوماً» مشابهاً، فوجدت «ساحة «روابط» للفنون الأدائية و«غاليري تاون هاوس» على أبوابهما فريقاً من رجال «الرقابة على المصنفات» وأجهزة الحيّ (المنطقة) والضرائب و«مكتب العمل» وغيرها من الأجهزة الفنية التي راجعت تصاريح المؤسستين وأوراقهما وموادهما الفيلمية. وفي النهاية، وجدت أنّ «روابط» تفتقر إلى «مخرج للطوارئ»، فتم إغلاق الساحة والغاليري إلى حين تخصيص ذلك «المخرج»، و«توفيق» الأوضاع القانونية للمؤسسة لتتبع «الحيّ» بدلاً من «تراخيص وزارة الثقافة»، وغير ذلك من المتاهات الإدارية.
في مساء اليوم نفسه، وجدت «دار ميريت للنشر» في مقرها الجديد المفتتح قبل أسابيع، فريقاً آخر من الشرطة سألها هذه المرة بخصوص اتهام بـ «طباعة كتب بلا أرقام إيداع». ثم قبض على أحد العاملين في الدار، قبل أن يفرج عنه لاحقاً، في تكرار لما جرى قبل أسابيع مع «مركز الصورة المعاصرة». وفي كل تلك «الاقتحامات» والتحقيقات، لم يظهر الأمن الوطني (أمن الدولة سابقاً) في الصورة، إذ لا يمكن اتهامه صراحة بالوقوف خلف تلك الاقتحامات المفاجئة المتزامنة مع اقتراب الذكرى السنوية لـ «ثورة 25 يناير». بل تكفلت ــ تماماً كما وصفها سعد الدين إبراهيم- الأجهزة الإدارية والفنية بالاقتحام والضبط والإغلاق، وإن لم يعد عددها مهماً هنا، سداسياً كان أم رباعياً أو خماسياً.
ماذا تريد تلك الأجهزة؟ ضمان معايير السلامة أم «ضبط» وتحذير تلك الساحات والمؤسسات شبابية الجمهور، بعدما «توقف» بالفعل مهرجان «الفن ميدان» الذي كان الفعالية الفنية الوحيدة التي يستضيفها شارع «ميدان عابدين» في وسط القاهرة؟ هل تريد الأجهزة إغلاق الساحات أم تقييدها أو مجرد تحذيرها، أم أنّ الأمر مجرد مصادفة عشوائية يصعب تصديقها؟
نظرة أقرب إلى حدث مواز قد تساعد على الفهم. في يومين اثنين، برأت المحكمة روائياً هو أحمد ناجي (الأخبار 4/1/2016 ـــ 2/11/2015) وسجنت باحثاً هو إسلام بحيري. وحبست النيابة صحافياً (محمود السقا)، ووراء تلك الاتهامات والأحكام تقف قوانين زهدها الزمن كـ «خدش الحياء» و«ازدراء الأديان» و«بث أنباء مغلوطة». وبينما يُحبس الأخير، يُبرأ الأول ويسجن الثاني قبل أن يُقبل استشكاله للنقض على الحكم، فتبدو المنظومة القانونية ــ وهي تعبير في النهاية عن طبيعة الدولة- حائرة بدورها، بين الرغبة الواضحة في «ضبط المجال العام» وتناقض تلك الرغبة مع حماية الدستور المفترضة لحرية التعبير والاعتقاد، تماماً كالتناقض بين مواجهة الدولة المعلنة للرجعية الدينية، والتضييق ــ كرغبة أمنية- على مؤسسات الأدب والفن، فلم يستطع الباحث إسلام بحيري، بعد تأكيد الحكم بسجنه، سوى أن يقول ــ في صيغة فهمت كسخرية ــ «شكراً للسيسي وثورته الدينية»، فثمة إحساس عام بأن الدولة لا تريد الرجعية ولا – لطبيعتها السلطوية – تعرف كيف تواجهها. لا تحبها ولا تأمن لأعدائها أيضاً، والنتيجة سلوك يشبه التحرّش بمؤسسات الثقافة المستقلة، فلا هي تريد افتراسها تماماً ولا هي تسمح لها بأن تتنفس.