ترجمة: رشيد وحْتي
يكاد أنْدْري دي بوشّي، في ممارسته الكتابيّة، لا يفرّق بيْن الأنْواع، فغالبيّة أعْماله تتّخذ لها شكْل دفاتر ملْحوظاتٍ يمْتزج فيها الشّعْرُ بنقْدِه، التّنْظيرُ بجماليّةِ الفنِّ، الخاطرةُ الفلْسفيّةُ بِالـمحْكيّاتِ الحُلُمِيَّةِ. إنّه النّصّ العابر للْأنْواع في ضَرَبَاتِ أَحْبَارٍ تكاد تشْبه ضرباتِ فُرْشاةٍ على جدارٍ رُخَامٍ أبْيضَ. في ما يلي نصوصٌ منْ مراحل مخْتلفةٍ منْ حياته. [الـمترْجم.]

1. شهابٌ

الغياب الذي يشكّل لي نفساً بدأ منْ جديدٍ في التّساقط على الأوراق كالثّلْج. بزغ اللّيْل. أكْتب أبعدَ ما أمكن عن نفسي. [من ديوان: في الحرارة الشّاغرة، 1961.]



2. دفترٌ أزْرق ضائعٌ

[طرف الدّفْتر هذا يقول ضياع الدّفْتر.. لقدْ كُتب بحبرٍ أزْرق داكنٍ على جذاذات بْريسْتولْ صغيرةٍ ذات لون برتقاليٍّ باهتٍ.]
*
الأرْبعاء 17 تشْرينْ الأوّل 51

كان الفجْر يُذهّبُ الدّرج الأوّل.
*
الأحْجار تنْفتح ككدسِ أطْباقٍ/ نتناولها بيْن ذُرعانينا/ عنْدما يهبّ الـمساء/ يتحرّك الشّرْشف/ تنْفجر السّماء البيْضاء/ ألمحُ بخار الحديد يتمدّد فوْق الجدار/ وأبقى مع هذه الأطباق البيضاء والباردة: كما لو أنّي أتناول الأرض بعيْنها بين ذرْعانيّ.
*
الإنسان أخرس، الصّورة هي التي تتكلّم.
*
ستكون حكايتي هي الغصْن الأسْود الـملْتوي كوعاً في السّماء.
*
ضعْفي يتجلّى في رغْبتي أنْ يكون كلّ ما أقوله مرْئياً.
*
كلّ شيْءٍ يعود ثانيةً للْكلام، فيلجُ الكلامُ الصمتَ ثانيةً. لكنْ، هذا الصّمْت النّهائيّ، كان جيمسْ جويسْ حالماً بالتقاطه بدوْره، وبدمْجه في قلب سرْده.
*
رامْبو، إنّه الشّعْر في صفائه الكيميّائيّ — مخْتصراً بوجازةٍ — مسْتبقاً الحياة، مخْتصراً لها، دفْعةً واحدةً، — ثمّ خالداً للصّمْت.
*
ما بوسْع الجميع أنْ يصل للتفاهة./ التّفاهة: البداهة الـمعْطاة/ الشّعْر: البداهة الـمنْتزعة./ هكذا إذنْ أفْضتْ أجْمل القصائد إلى بضْعة نصوصٍ بيْضاء كصفْحةٍ من ورقةٍ بيْضاء — لتصير متاحةً: أيْ أنّها لمْ تكفّ عن الفعْل. مثْل كلّ ما ينْهمك في الفعْل.
*
أكْتب دوماً كي أجْعل نفسي جديراً بالقصيدة التي لمْ تُكتبْ بعدُ.
*
أنا أشربُ الغروب الأحمر/ كلطخةِ نبيذٍ.


3. دفتر أسود

انْتظار مثْلجٌ/ لي أو للنهار الذي سيطول/ لسْت إلا صلْصالاً منطفئاً/ لكنّ الألقَ الأحْمر ما زال ينْساب/ منْ بين أصابعه/ كنبيذ التّوت.
*
خلال الومضة التي تسْبق وقْعة النّوم، أفكّ شفْرة الجدار.
*
كل شيء يصطفُّ تاويا، كما في رسومات جْياكوميتّي. الطّيْف الـمعْقود لشجرةٍ تتفرّع، تحْت البروزات، قضيب مزْلاجٍ ضخْمٍ يقطع المتشابكات السوداء، حاملاً أشْرعةً، حبالاً، متحرّكاً في السّيْل الذي يهْبط مسْتواه كلّما انْطفأتْ نافذةٌ مقابلةٌ، على العكْس، يزْدادُ. الزّجاج يعلّقُ ومضاتٍ. كل عناصر النّهار ترى في صمْتها، هدْأتها الهفْهافة. دون هذا التّنْميل الحادّ.
*
أمْنحُ الأحْجار نفْسي. أتقدّم، صحْبة أطيافٍ على كتفيّ.

4. إملاءٌ

فمٌ طازجٌ يدْعس الهواء. اللّيْل يتدحْرج ثانيةً. طريقي تُسْتأنفُ في الثّلْج. تبْزغين، عندما أشيح بوجْهي، كشيءٍ متوحّشٍ
*
نارٌ أو نافذةٌ أو خاصرة ثلْجٍ.
*
نهارٌ يده تشدّ على يدي/ أتنفّس مكانه/ باسطاً هذه الطّريق الباردة/ خارجاً/ حتّى الأرض/ هذه ليستْ ناري/ هي حرارةٌ أخْرى/ سماؤها/ نحْن فيها محْبوسون. [من ديوان: هواءٌ، 1986.]

5. قنْديلٌ في ضوءٍ يابس

لا أحبّ إلّا ما يمْنحُ نفْسَه لِلْحذْف، للْانْتقاص. فأزيح ما أحبّ.
*
في السّونيتة، ثمّة بياضاتٌ، فرْجاتٌ محدّدةٌ اعتباطياً. ونحْن نحسّ بضرورة هذه الفرْجات. الانْزياحات.. ينْبغي إذنْ ابْتكار أخْرياتٍ جديدةٍ تكون بدورها محسوسةً، حاسمةً، وأكثر مرونةً، أحسن تلاؤماً مع حريّة الفكْر الّتي تمشي من نقطة لأخرى عبْر منْعرجاتٍ، مسالك مخْتصرةٍ، صورٍ غالباً ما تكون غريبةً لا يعود بإمكانها أنْ تلْفظها مسبّقاً.
*
وفي كلّ مرّةٍ نريد أنْ نُلزمَ بكتابة القصيدة الأخيرة. [منْ دفاتر 1949-1955: قنديل في ضوءٍ يابس.]

6. شهادتان بصدد أندري دي بوشّي

أحسُّ بنفْس الشّيْء عنْدما أقْرأ قصيدةً لأندري دي بوشّي، كما عندما أنظر في منحوتةٍ لجْياكوميتي. هاته الفكرة حول الـمشْي، حول الوجه البشريّ في منْظرٍ، وحيداً، متقدّماً عبْر الفضاء، هذا ما يصْنعه أندري في قصائده، هذا ما أجده غريباً ومؤثّراً، ومخْتلفاً عنْ كلّ الشّعراء الّذين قرأْتهمْ. [پول أوستر]
*
منذ دواوين أندري دي بوشّي الأولى، أتذكّر أنّي كنْت، في نفْس الوقْت، مُثَاراً ومُسْتبْعِدًا نَفْسِي، علامةً على الاحْترام، إنْ شئْتُ القوْلَ، كما لوْ كنْتُ أمام كتْلةٍ شَمَّاءَ [بدتْ لي بِدونِ تَصَدُّعٍ]، ينيرها ألقٌ حَرِكٌ وعنيفٌ. ليْستْ ضرْبة حظٍّ أبداً أنْ يترْجِم دي بوشّي ملْحوظةَ پّاسْترْناكْ هذه: "الصّورةُ نِتاجٌ طبيعيٌّ لِوَجَازَةِ الحياةِ وشَسَاعَةِ الـمَهَمّةِ الّتي أَوْكلهَا لِنفْسِه. فهذا التّنافرُ هو ما يُجْبِرُه على النّظرِ بعيْنِ الصّقْرِ الْحَاوِيَةِ، على ترْجمةِ مُدْرَكَاتِه الآنيّة عبْرَ ومضاتٍ خاطفةٍ. هو ذا جوْهر الشّعْر". يمْكن لِنُتْفَةِ الجمْلة الّتي وضعْتُها بِالبنْط السّميك أنْ تُعَرِّفَ [مؤقّتاً على الأقلّ] قصائدَ أنْدْري دي بوشّي. يتعلّق الأمْر، دوْماً تقْريباً، برؤىً جوّانيّةٍ، تليها التهاباتُ كلامٍ فُجائيّةٌ. نظرةُ أنْدري دي بوشّي قاطعةٌ، تنْفتح على رؤْيا، كأنّ الحجاب الّذي يفْصلنا عن الخارج يتمزّق للحظاتٍ. [فيليپ جاكوتّي]