مِنْ رَحِم الظّلامِ، رديفِ العَدَمِ، نبتَ الطّوبُ مكسوّاً بشَطَطِ ذاكرة موبُوءة. انحدرنا مع الأدراج نخُوضُ في عتمة السُّلم والنّفْسِ؛ رائحةُ كُتُبٍ تحلّلتْ، رطوبة زاكمة ومكر. لم يكُ لي الوقتُ الكافي لأسأل نفسي أنا من أكُونُ. التفتُّ إلى الخلف لأستطلع المكانَ الذي وفدتُ منه توّاً فباغتني صَوْتٌ يُشبِهُ صَوْتِي:
ـ أخرجوني من المرحاض.
تفقّدتُ المكانَ فلمْ أجِدْ غير كِتَابٍ تحتَ قدميّ. تأبّطتُهُ على عجَلٍ ويدُ رَفِيقٍ انبرى من فراغ تسحبُني إلى ضيق الأزقة. السّماء عذراء، لا نذوب فيها، يسطعُ ضوءُ الشّمس فيُحيلُ الضيق إلى رحابة، تتناسلُ الدّرُوبُ المُبلّطةُ بالحجر الصّقيلِ، المطليةُ حيطانُها بالأبيضِ والأزرقِ، عابرةً أبواباً مشرّعة لمنازلَ خاوية على عرُوشِها. تتوالى فيتعمّقُ عمهي.
ـ أين نحن؟
توقّفَ في عتبةِ بيْتٍ فتوقّفتُ. هذا الذي يسبقُنِي يسلبني الكثير من حريتي. مدّ يدَهُ، سرقَ ثلاثَ تفّاحاتٍ مِنْ آنيةِ فضية ثمّ فرّ... لم يكُ أمامِي غيرُ الرّكضِ خلفَهُ.
ـ أنا ضعيف، وهن. قلت في نفسي وأنا أرفو الأزقة التي يفتقها.
...
تحرّرْنا منَ الأزقة فباغتنا حَشْدٌ كبيرٌ. مِئاتُ النّاسِ على كراسٍ إسمنتية يتداولُونَ أمراً. أخفى رفيقِي التّفّاحاتِ فأخفيتُ الكتابَ. مررنا بين المُتحاورِينَ، لكنّ أحداً لمْ ينتبهْ إلينا، كُنّا غير مرئيينَ، أو هُيِئَ لي.
قضَمَ الشّاب بنزقِ المُراهِقِينَ تفّاحتيْنِ، ألقاهُمَا باتّجاهِ الحشْدِ، دَسّ الثّالثةَ في جيبِهِ أمامَ استغرابِي. قالَ وهو يهمّ بالفرارِ:
ـ لا تبتئس، عالمٌ مِنْ ورقٍ لا يستحقّ الاكتراث.
قصد باباً موارباً لفيلّا ضخمة. ناديتُهُ مستجدياً:
ـ كلا، يكفي.
كان عابثاً إلى أبعد مدى، غير مكترث بتجربة عيش منقوصة.
ـ التجاربُ المنقوصة لا تكتمل بغير الجُنُونِ.
أجابَ مستنفراً. تبعتُهُ. ما استطعتُ تدبّر أمري بمفردي في عالم هجين وبإرادة مسلوبة. قطعنا المجازَ المُبلّطَ. عندَ عتبَةِ البابِ الدّاخلي قرَعَ الجرس، ثمّ ولّى مُختَفِياً بيْن أشْجَارِ الحدِيقَةِ... أدبرتُ غير أنّ صاحبة البيت رصدتني. كانت طويلة القامة، خمسينية العمر، بشعر غسقيّ يضفي عليها المزيد من الصّرامة:
ـ غريبٌ في حديقةِ بيتنا يا حسن.
ركضتُ فتعقّباني. أتمّ رفيقِي دورة كاملة حول البيت، ثمّ فرّ عبر الباب الخارجي. لوح لي هازئاً خلف قضبان الباب الذي أغلقه في وجهي:
ـ آن لك أن تكمِلَ بمُفردِكَ.
قهقهتْ سيّدةُ البيْتِ وفِي صَدْرِهَا تشفٍّ متطلّعةً لمشْهدٍ فرجويّ لا يتكرّرُ دائماً. الرّجلُ الذي يمشي أمامَها، وقد اطمأنّ لوقُوعِ الفار في الشّركِ، بصقَ في يده اليمنى، فركها باليسرى، ثم شمّر على ساعديه. لا شك، فكّرَ في تكْرِيسِ رُجُولتِهِ على حِسَابِي.
...
ـ لستُ دُميةً أيّهَا المسوخ.
صرختُ في وجهَيْهِمَا وركضتُ...
ـ سترى أيّها اللّقيط.
قال الرّجلُ البدينُ وقد تسلّح بعصا.
ـ اقتُله.
قالتِ الشّمطاءُ تحرّضُهُ.
أسرعتُ. في المنعطف، تسلّقتُ سُلّماً حديدياً من بضع درجات، عبرْتُ مدخل مقصورة كرافان متوقف في باحة الحديقة. إلى اليمين باب صالُونِها مواربٌ، ومنه يظهر شابّان يُشاهدان مباراة في كرة القدم على شاشة صغيرة، على يساري غُرفَةُ المِرحَاضِ الضّيّقةُ.
...
جلستُ على كرسيّ المرحاضِ.. تمنيتُ أنْ ينتهِي هذا العَالمُ.. النّافِذَةُ مِنْ خَلفِي غائمة موصدة.. أمامِي وقْعُ خطواتِ المرأةِ على السّلم. انتبهتُ للكتاب؛ بنّيٌّ، داكِنٌ، ومِنْ طِرازٍ عتيقٍ. تأمّلتُ العُنوانَ: "تِـيهٌ". وضعتُ المَرأةُ يدَها على مقبَضِ البابِ فجَاءتْ صرْخَةٌ من صالةِ المقطُورة. هرولتْ. سمعتُهُ يقولُ مبتهِجاً: "سجّلنا الهدف".
ـ وماذا بعد أيّها البُؤساءُ؟
سكنتُ في مكاني. "ثمّة دوماً أملٌ في النّجاةِ"، فكّرتُ. تحرّكتِ المقصورَةُ.. تسير بي إلى المجهولِ، أنا الوَافِد مِنَ المجهُولِ. صرختُ:
ـ أخرجُوني من المِرحاضِ.
فتحَ البابُ. ظهَرَ شابٌّ ثلاثيني يحمل أوراقاً ودفتراً، ابتسمَ في وجْهِي. كان هادئاً، بشُوشاً، وواثقاً مِنْ نفسِهِ:
ـ لا تجزعْ أيها الصّديق، أدركتُ التخلص، يمكنك أن تخرج الآن.

محسن الوكيلي
* قاصّ وروائي مغربي