ترجمة: شادي عبد العزيز

ما لنا

رجالنا ليسوا لنا. حتى أبي الذي غادر بعد ظهيرة يوم ما، ليس لي. أخي الذي في السجن، ليس لي. أعمامي الذين عادوا للوطن وقتلوا بالرصاص في رؤوسهم، ليسوا لي. أبناء عمومتي، المطعونين في الشوارع لكونهم أقل أو أكثر قناعة من اللازم.
ثم يقول الرجال الذين نحاول حبهم أننا نحمل خسارة أكثر من اللازم. نلبس الأسود أكثر من اللازم، أننا أثقل من أن نوجد قربهم، أكثر حزناً من أن نُحب.

ثم يغادروننا ونرثيهم كذلك. هل تلك الغاية من وجودنا هنا؟ أن نجلس إلى طاولات المطبخ، نعد على أصابعنا من ماتوا، ومن غادروا، والآخرون ممن أخذتهم الشرطة، أو المخدرات، أو المرض، أو النساء الأخريات. هذا ليس منطقياً. انظري إلى جلدك، إلى فمك، هاتين الشفتين، هاتين العينين. يا إلهي، أنصتي إلى هذه الضحكة. الظلمة الوحيدة التي علينا أن نسمح بها هي الليل. وحتى حينذاك، لدينا القمر.

قبيحة

ابنتكِ قبيحة
هي على معرفة وثيقة بالخسارة
وتحمل مدناً بكاملها في بطنها

في طفولتها، لم يحملها الأقارب
كانت خشباً مشقوقاً وماء بحر
قالوا أنها تذكرهم بالحرب

في عيد ميلادها الخامس عشر
علمتِها كيف تعقد شعرها كحبل
وتجدل شعرها على بخور محترق

جعلتِها تتغرغر بماء الورد
وبينما تسعل، قُلتِ:
لا يجب أن تشي رائحة فتاة حلوة مثلكِ
بالوحدة أو الفراغ.

أنتِ أمها
لماذا لم تحذريها
لماذا لم تضميها كقارب منخور
وتخبريها أن الرجال لن يحبوها
لو أنها مغطاة بالقارات،
لو أن أسنانها مستعمرات صغيرة،
لو أن معدتها جزيرة
لو أن فخذيها حدودٌ؟

أن ما يريده الرجل هو الاستلقاء
ليشاهد احتراق العالم
في غرفة نومه

وجه ابنتك أعمال شغب صغيرة،
يداها حرب أهلية،
معسكر لاجئين خلف كل أذن،
وجسم توسّخه أشياء قبيحة

ولكن يا إلهي،
أليست ترتدي هذا العالم بشكل جيد؟!.

محادثة عن الوطن (في مركز الترحيل)

حسناً، أظن أن الوطن بصقني، الإعتامات وحظر التجوال تشبه لساناً يقابل سِناً سائبة. يا إلهي، هل تعرف كم تبلغ صعوبة هذا الأمر؟ أن تتكلم عن اليوم الذي سحبتك فيه مدينتك من شَعرك، مروراً بالسجن القديم، مروراً ببوابات المدرسة، مروراً بالجذوع الآدمية المحترقة المرفوعة على السواري كالأعلام؟ عندما أقابل آخرين مثلي أتعرف على الحنين، والفقد، وذاكرة الرماد على وجوههم. لا يغادر أحدهم وطنه إلا لو كان الوطن فماً لسمكة قرش. كنت أحمل النشيد الوطني القديم في فمي طويلاً حتى لم يعد هناك مكان لأغنية أخرى، ولا لسان آخر أو لغة أخرى. أعرف خزياً كأنه كفنٌ يبلعني. مزقت جواز سفري وأكلته في فندق المطار. تملؤني لغة لا أتحمل نسيانها.


■ ■ ■


ثم يسألونني: كيف أتيت إلى هنا؟ ألا ترى ذلك على جسدي؟ الصحراء الليبية الحمراء بأجساد المهاجرين. خليج عدن متخم، مدينة روما بلا سُترة للنجاة. آمل أن تعني الرحلة ما هو أكثر من الأميال، فأطفالي كلهم في الماء. ظننت البحر أكثر أمناً من الأرض. أريد أن أمارس الحب ولكن شعري له رائحة الحرب. وأجري وأجري. أود لو أستلقي أرضاً، ولكن هذه البلدان تشبه أعماماً يلمسونك وأنت صغير ونائم. انظر إلى كل هذه الحدود التي تزبد عند الفم بأجساد منكسرة ويائسة. أنا لون الشمس الحارة على وجهي، رفات أمي لم يدفن أبداً. قضيت أياماً وليالي في بطن شاحنة، لم أخرج منها كما كنت. أحياناً أشعر كما لو أن أحداً آخر يرتدي جسدي.


■ ■ ■


أعرف عدة أشياء حقيقية. أعرف بالفعل أني راحلة. المكان الذي أتيت منه في طريقه للاختفاء، أنا غير مرغوبة، وجمالي ليس جمالاً هنا. جسدي يحترق بعار عدم الانتماء، جسدي يحنّ. أنا خطيئة الذاكرة وغياب الذاكرة. أشاهد الأخبار ويصبح فمي حوضاً مليئاً بالدم. الخطوط، والأشكال، الناس الجالسون إلى مكاتبهم، بطاقات الاتصال، ضابط الهجرة، النظرات في الشارع، البرد الذي يستقر عميقاً في عظامي، دروس الإنجليزية ليلاً، المسافة التي تفصلني عن المنزل. ولكن الحمد لله، هذا أفضل من رائحة امرأة محترقة بالكامل، أو حمولة شاحنة من رجال يشبهون أبي، يخلعون أسناني وأظفاري، أو أربعة عشر رجلاً بين ساقيّ، أو مسدس، أو وعد، أو كذبة، أو اسمه، أو عضو ذكورته في فمي.


■ ■ ■


أسمعهم يقولون: عودي إلى وطنك، أسمعهم يقولون: تباً للمهاجرين، تباً للاجئين. هل هم بهذا الجهل حقاً؟ هل يعلمون أن الاستقرار يشبه عاشقاً معسول اللسان يعتلي جسدك للحظة، وفي اللحظة التالية تستلقين مرتجفة على الأرضية، مغطاة بالأنقاض والعملات القديمة تنتظرين عودته. كل ما أستطيع قوله أني كنت يوماً ما أشبهكم، البلادة، والشفقة، والوضع البغيض، والآن وطني فم سمكة قرش، والآن وطني فوهة بندقية. سأراكم في الجانب الآخر.

*شاعرة صومالية من مواليد 1988 تعيش في لندن، وهي المحررة الحالية لباب الشعر في مجلة «سبوك Spook»، صدر ديوانها الأول «أعلّم أمي كيف تلد» عام2011، وفازت في العام 2013 بجائزة إينوجورال برونيل للشعر الأفريقي. ترتكز قصائدها المكتوبة بالإنجليزية على مواضيع الحرب، والهجرة، والاغتراب، والحب، والسيطرة الذكورية على النساء في مجتمع تقليدي، فيحضر التعبير عن الجسد أحياناً كساحة حب، وأحياناً كساحة صراع، وأحياناً كخريطة للعالم نفسه.