أثار «عندما أتى الجند - اغتصاب النساء الألمانيات في نهاية الحرب العالمية الثانية» عند صدوره عواصف متناقضة من ردود الفعل. هو يتناول بالبحث المتقصِّي موضوعاً مسكوتاً عنه في ألمانيا، ولم يسبق لأحد أن تطرق إليه من قبل على هذا النحو المنهجي والمتناهي في علميته. وما زاد أهميته أن الكاتبة ميريم غبهردت، صحافية وبرفسورة تدرِّس التاريخ في «جامعة كنستنز» الألمانية. المشكلة ليست في العنوان، لكن في حقيقة أن الكاتبة تتحدث في عملها عن اغتصاب جنود التحالف الغربيين الأميركيين والبريطانيين والفرنسيين وحتى البلجيك، النساء الألمانيات، عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية.
أكثر من ذلك، قام الجنود الأميركيون بممارسة النهب أيضاً، إضافة إلى جرائم الاغتصاب.
منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، لم تسمع الأجيال الألمانية عن هذا، على الأقل ليس عن «جند محررين أتوا من دول ديمقراطية» وما إلى ذلك من اللغو. كان ثمة كلام، منخفض النبرة، عن قيام الجند الروس باغتصاب النساء الألمانيات عندما دخلوا الأراضي الألمانية التي كانت تمتد شرقاً مئات الكيلومترات مقارنة بحدود اليوم.
لا شك في أن الحديث في موضوع اغتصاب «آسيويين» وحوش للألمانيات يحمل الكثير من الإحراج، ذلك أن الأمر يتعلق بما يشار إليه على أنه انتهاك شرف الأمة والحط من قدرتها ومن مقدرة رجالها على حماية شرفهم، وما إلى ذلك. لذا من الطبيعي أن يسبب صدور هذا الكتاب موجة لم تتوقف من ردود الفعل العصبية والعاطفية التي تحاول التستر خلف آراء علمية.
في الحقيقة، إن التعرض لمسألة اغتصاب جنود الحلفاء النساء الألمانيات ليس جديداً في المطلق. سبق هذا الكتاب صدور يوميات سيدة ألمانية برلينية من الضحايا كتبت عن تجربتها الشخصية بين يومي 20 نيسان و22 حزيران 1945، لكنها أوصت بعدم نشره قبل وفاتها، وهذا ما حصل فعلاً في عام 2003، بل إنه استحال عام 2008 فيلماً روائياً عنوانه «المجهولة/ امرأة في برلين» (Anonyma, Eine Faru In Berlin). الكتاب أثار وقتها ضجة نفخ الفيلم الروائي فيها مزيداً من الروح.

في الحالات النادرة التي تمت فيها إدانة المغتصب، فقد كانت من الأفروـ أميركيين

من المفهوم أن الحديث في هذا الموضوع الحساس للغاية يسبب إحراجاً لكثيرين، لكن المجتمع الألماني، كغيره من المجتمعات الغربية المصنعة تتجنب حالات الإنكار وتواجه ماضيها ومشاكلها الاجتماعية بعقلية منفتحة. لذلك، فقد عبرت العالمة الألمانية عن استغرابها للصمت المطبق على الموضوع رغم مرور نحو 70 عاماً على انتهاء الحرب العالمية الثانية، وبالتالي عدم وجود الجيل الذي عايش ذلك العنف المبتذل على نحو مباشر. البرفسورة الألمانية ميريم قدرت عدد النساء الألمانيات اللواتي تعرضن للاغتصاب بنحو 860000 في الجبهتين الشرقية والغربية. غبهردت شرحت تفاصيل منهجية عملها وبحثها اللذين أوصلاها إلى هذا الرقم المريع، رغم عدم توافر عدد كافٍ من الشهود أو تسجيلات مباشرة لتلك الحالات، ويمكن للراغب في معرفة المنهجية العودة إلى الكتاب أو ترجماته. كما أضافت الكاتبة ملاحظة أن الرقم الذي توصلت إليه هو أقل بكثير من الرقم المتداول داخلياً لدى الإدارات الألمانية وهو مليونا امرأة مغتصبة، في الجبهة الشرقية فقط، وأغلبها تم أثناء التطهير العرقي الذي مورس بحق الألمان في حدود ما قبل الحرب، واتفق عليه كل من ستالين وروزفلت في لقاء القرم.
من الواضح أن السبب الرئيس لصمت الإدارات الألمانية المختلفة عن هذه المسألة يكمن في أنه يسيء إلى حلفاء ديمقراطيين أتوا محررين، وليس محتلين. فأي كلام في الموضوع كان سيعرض هذه الصورة الهوليوودية النمطية للاهتزاز ويسيء إلى الإدارات الألمانية وكيفية تعاملها الدوني مع المنتصر الغربي الذي استحال حليفاً.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الاعتراف بما حصل يعني ضرورة بناء الحكومات على الأمر مقتضاه، أي التعويض الكامل للضحايا، بعد الاعتراف بوجودهن. لكن المرء حصل على تعويض فقط إن كان جندياً مصاباً مشاركاً في الحرب أو يهودياً أو شخصاً من ضحايا الملاحقة النازية وكان جلهم من رجال الكنيسة في المقام الأول.
ومن الأسباب الأخرى التي تساق لشرح سبب عدم اعتراف الحكومات الألمانية بالأمر الذكورية الفجة لدى القائمين على الأمور.
أما أسباب ممارسة الاغتصاب، فتعيدها الكاتبة إلى مجموعة من العوامل منها إثبات الذكورية والانتقام من المعتدي والشعور بالزهو والخيلاء تجاه المهزوم، تضاف إلى ذلك الاختلافات العرقية والثقافية والشعور بالأفضلية القومية، والوحدة التي يعانيها الجند على الجبهات، والغيرة من مستوى معيشة المهزوم، وما إلى ذلك (انظر العرض التالي - ما يفعله الجند).
المؤلفة خصت برلين في بحثها عن حالات الاغتصاب في الجبهة الشرقية، ثم انتقلت إلى ولاية بفاريا حيث وُجد الجند الأميركيون لتشرح الانتهاكات التي مارسوها هناك، ودور الكنيسة ورجال الدين والقضاء في التغطية على ما حصل. وهكذا أضحت النساء المغتصبات، اللواتي حملن بسبب ذلك على نحو خاص، لسن فقط ضحية الانتهاك لأجسادهن وأرواحهن، بل أيضاً ضحايا نبذ المجتمع لهن. وقد خصصت الكاتبة قسماً من عملها للتعامل مع العواقب النفسية لعمليات الاغتصاب ووضع الضحايا بعد ذلك. كما لاحظت الكاتبة أنّه في الحالات النادرة التي تمت فيها إدانة الجاني الأميركي، فقد كانت من الأفروـ أميركيين.
الكاتبة قدمت عملاً على جانب كبير من الأهمية من منظور أنه يسجل حقائق تاريخية سكت عنها الجاني والضحية أيضاً، وقدمت إسهاماً مهماً في سيكولوجية الحروب. جرائم الجند الأميركيين لم تبدأ بأبو غريب، بل إنها ترافق كل الحروب.