هناك شعر جيد في المغرب، بل إنه شعر مدهش وذكي وطازج. شعرٌ يأتينا من زاوية مفاجئة لا يسلكها معظم الشعر الذي نقرأه كل يوم، أو لعل فضيلته أنه يأتي من تلك الزاوية التي اعتاد الشعر الحقيقي أن يأتي منها دوماً. إنه شعر الهامش وقد تحول إلى متن شعري كامل، ولكنه في الوقت نفسه لا يريد استكانة المتن ورخاوته. لم يظهر هذا الشعر فجأة، ولكن الإنترنت ووسائل التواصل ساهمت في انتشاره وتقديمه بسرعة أكبر، وجعله مرئياً ومقروءاً ومقدَّراً في جغرافيات أوسع من المكان المغربي الذي كُتب فيه هذا الشعر.
وينبغي أن نسارع إلى القول بأن ما نقصده ليس شعراً واحداً، بل هو أصواتٌ شعرية وأمزجة منفردة ونبراتٌ ذاتية، والهدف من جمعها هنا ليس البحث عن أوجه تشابه أو اختراع سياق أو نسق شعري لها. ولعل ما يجمع بينها أنها اختارت الإقامة خارج السياق العمومي والتحقيب الزمني وتنميطات الجيل الشعري، وأنها شددت على فرديتها وهامشيتها وخشونتها، وأن أغلب هذه الأسماء عاشت معاناةً شخصية مع الكتابة، وبعضهم لم يطبع إلا ديواناً واحداً، والبعض الآخر لم يطبع باكورته بعد، بينما كلهم تقريباً عاشوا عزلاتٍ مختارة، أو نأوا بقصائدهم عن الأضواء العامة، أو توقفوا عن الكتابة تقريباً، مكتفين بما سبّبه لهم الشعر من سوء فهم إضافي مع الحياة.
قوة هذا الشعر تأتي من فرديته ومن ممارساتٍ تخييلية تمزج اللغة مع الحياة المعاصرة والعادية والمتسخة، وتفتح الاثنين على جروح الذات وأحلامها ونظرتها المواربة إلى العالم. حداثة هذا الشعر ليست في انتمائه إلى النثر فقط، وليست في عدم مراعاته للانطباعات الجاهزة والبديهية عن جماليات الشعر، بل هي موجودة في خشونته وريبته وشكوكه ونفوره من التعاقد الدارج بين الشاعر والقارئ. وربما ينبغي أن نضيف أن جزءاً من قوة هذا الشعر يتمثّل في أن اصحابه أداروا ظهورهم لأغلب ما كان يصلنا من شعر الستينيات والسبعينيات في المغرب نفسه. وهذا يشجعنا على القول إن ما نقرأه الآن امتلك أصحابه فكرة أن تتعدد مرجعياتهم وفضاءاتهم ومعاجمهم، وأن يجمعوا بين أمزجتهم وبين أفضل نماذج الشعر التي وجدوها في المغرب وفي العالم العربي وفي شعريات العالم أيضاً. لقد تحرّر هذا الشعر من فروض الهوية الأولى، وتحرر أيضاً من روح الجماعة والجيل الواحد. وما ننشره في هذا الملف لا ينفي أنها أسماء منفردة غير خاضعة لأي رابطة جماعية، كما أنها ليست مُلزمة بالترتيب الذي تتوالى فيه القصائد:


عبد الإله الصالحي

شكراً جزيلاً جِيلْ دُولُوزْ

كانوا يستشهدون بكَ
ويهمسون باسمكَ
كنبيٍّ قادم من بعيد
من فمه تصدح موسيقى لا يُشَق لها غبار.
لم تكن فرنسيتي تسعفني لكي أشتري حتى الخبز
لكن رنين اسمكَ
في المناقشات الجانبية كان له سحر خاص
طالما أخجلني من فرط الجهل.
الهجرة حق مقدس، قلتَ ذات مرة.
لم يقلها أحد قبلكَ ولم يجرؤ على ترديدها أحد بعدكَ.
في هذه البلاد التي تزوجناها عن حب
أنا ومحمد وعبد القادر وفاطمة
وعرب آخرون تضيق بأسمائهم المغبرة هذه القصيدة
حتى الآن لم أعثر على أحد يشرح لي طلاسم عبارتك المبهمة
القوانين تقول العكس من حكومة لأخرى
والبواب فرنسي من أصل برتغالي
يحتقر الفلاسفة.
كنتُ في المترو أتلصص على صفحة جريدة يقرأها أحد الركاب
كان اسمك مكتوباً بحروف بارزة وكان العنوان موتكَ
رميتَ بنفسكَ من النافذة على ما يبدو
لماذا إذاً كل الذين يحبونك حتى العمى
يعشقون الحياة أكثر من أي شيء آخر
خجلت مرة أخرى من جهلي العميق بكَ
وكرهت نفسي بعربية فصيحة
رغم تأفف صاحب الجريدة الزنجيّ.
الهجرةُ حقٌّ مقدَّسٌ
عبارةُ يكفي أنها قيلت ذات يوم
لكي أستيقظ كل صباح
محتمياً بكَ يا دولوز.

هشام فهمي

الشيطان

حين كنا نسوق سيارة R4
بلا عجلات إلى روض الرغبة
يكون أبي قد اقترب منا كإوزة فقدت بركة
كلما انقضّ علينا بلحيته الطويلة وذكره الحكيم
أستيقظ من النوم مسرعاً
لأحكي للدّراري*
قصة الشيطان.
لكنهم لم يصدّقوني
كان الشيطان يحلّق في الهواء
هو زهرة شوكية أو نجمة ترفع قدميها العاريتين عالياً
الريح أرجوحة
والدّراري يتقافزون لالتقاطها
كنت أرفض أن أجري وراءهم
كنت أكره يوم الأحد
يفرك أبي إبطيّ فأصاب بنوبة ضحك
لذلك أختلس نظرة الى خرطوشه
المقلوب مثل شجرة بثمرتين
صافحتها شاحنة فتركتها
بمنحدر تنزف.
* (الدراري: الأولاد)

رائحة

الحذاء الرياضي الخفيف
أساء فهم الحافلة
لذلك فهو لا يلهث في الركض
ولا يزلق لسانه أمام سيارة الشيفروليه
أغضب من القمصان لأنها تتحدّث بالألوان مع المرآة
فأقترف أحماض العرق
ثم أدفنها في الغد
كلما سرقت عطر أمي من حقيبة اليد
الليل دكتور متخصص في الأسرار
والعيادة المسوّسة لا تشرب حليب النّوم
أنا لا أحتاج الى أغطية
وراءها يقبع الورم كقرادة على ظهر كلب
لكن كيف أختبئ من الأعداء الخارجين الآن
من فم الرّاديو
ورائحة المرق تكسر الجوّ
وصباغة الحائط تتقشّر
والتلفاز يتذكّر علاقته السيئة بالحياة
أقرّب أطراف أصابع اليد من الفم
فأتأكد أن رائحة البيض المسلوق
ما زالت قوية
قوية كأحداث واقعية فوق سرير
تركه شخصان نادمان
على شيء لا يذكرانه.

عبد الرحيم الصايل

عِشْ أنت

دعنا لا نمسّ بعضنا ولا نتحدث
اعتبرني الجندي الكوري الشمالي
وأنا سأعتبرك الجندي الكوري الجنوبي
عش أنت
ودعني أنا
ألحس أطعمة فاخرة
من المجلات المهربة
حالماً قرب القنبلة النووية
ومفكراً في الهروب من بلادي
ترفَّهْ أنت
أنا سألمع بندقيتي
وسأصوب بدقة
على الأرض، بين قدمي،
حيث ظلال دموعي التي لا تسقط
سأصوب فيما الرصاصات
ستنطلق من فمي
ازدهر أنت
أنا سأكدّس الموت.

سؤال


يسألونني
من أين جئت باللغة؟
فأجيب أنها هي التي جاءت بي.
أنا مجرد كلمة صغيرة
كافحت ضد أن تكبر .



محمد بنميلود

ما الّذي يريدونه منّا


نحن أبناءُ الأنبياء الفقراء
ما الّذي يريدونه منّا؟
لا نملك سوى قمر بعيد
في سماء الله
يكتمل يوماً واحداً فقط في الشّهر
نحن أبناء العمّال والحرفيّين
آباؤنا كلّهم نجّارون وصبّاغون وخيّاطو أقمشة وأكفان
آباؤنا كلّهم عجزة بلا معاش
وبلا أمراض مزمنة
سوى السُكَّريّ
وأمّهاتنا هنّ الأشجار
نحن أبناء الضّباب الحزين
ما الّذي تريده منّا الشّرطة؟
أيّ ممتلكات لدينا؟
أيّ رصيد في بناية البنك الجميلة؟
غير ماء نهر أبي رقراق السّريع
غير ماء نهر ملويّة
الفائض على السّهول
اعزف أيّها المتسوّل العجوز
على قيثارة قوقعة السّلحفاة
في زحام الحافلة
أيّها الأعمى الدّرويش المبارك
سنعطيك ثمن خبزة ساخنة
وكرتونة حليب
ادع لنا بالخير يا روح حافلات ساحة بَابِ الْأَحَدْ
يا جدَّ سنونوات المساء على سور القلعة
ادع لنا بالخير
نحن أبناء الحصّادين
وصيّاديّ السّمك الصّغير في السدّ
والرُّعاةِ على الهضاب القاحلة
نحن أبناء الأنبياء الفقراء
إن جاءت الشّرطة
سنشير لها إلى السّماء كي تحجز ممتلكاتنا كي تجرّ القمر بالسّلاسل إلى مبنى المتلاشيات
إن جاؤوا ليفزعوا أطفالنا
ستنفعنا دعواتك
أيّها الدّرويش الأعمى
ذو الطّاسة النّحاسية العميقة
فادع لنا بالخير والبَرَكة
وأنت تعزف.


أصنع السَحَاب بالسجائر

أُصْلِحُ ثلّاجاتِ السيَّداتِ الوحيداتْ
وأكتبُ الشّعر الحزين
بيد ملطّخة بالقشدة
كنتُ دائماً بسيطاً وواضحاً
كنصف خبزة على الطّاولة
وكان الله دائماً
صديقي الوحيد
يصنع لي العالم كي أتسلّى
كلّ مساء أتمشّى حافياً على رمال الشّاطئ صندلي في يدي
وليس عندي أهل
أَعُدُّ الزّوارق المخطّطة بألوان زاهية
لأغفو قليلاً فوق سرير من الصّخور
كانت حياتي دائماً ملوّنة وسعيدة
كمريلة رضيع ثخين
والآن، ها أنذا أصنع السّحاب بالسّجائر الباهظة
دون حتّى أن تكون هناك سماء في أيّ مكان
والحمامة الجميلة تأتي إلى البحر
وها قد وقعتُ أنا في الحبّ
والحمامة الجميلة تحطّ كلّ مرّة
فوق الرّمال
وتهدل.

كريمة نادر

تحت مطر لاهاي تذكرتك

نغمض عيناً
ونقفل الأخرى
لننسى الكره
المتخم بالشتائم والخيانات
نصيخ السمع لقرع المطر
على قراميد الأبنية الفلامانية.
العيونُ التي كانت تنكسر على نفسٍ واحد
تتفادى بعضها مثلما الشمسُ
شتاءَ لاهاي.
لم يعد بوسعك أن تبصر من خلالي
نظراتي تمردت عليّ.
ننسى جولاتنا على الدراجتين
في الأزقة الكولونيالية
وعلى الكورنيش
حيث تحب أن تلعب دور المدخن الشره، تسعل منتشياً
وتتبول قلقك جنب مراهقين
يختلسون قبلات لزجة
نسوق عجلاتنا فوق حبل التوتر
وترافقنا غيمة مالارميه *
ما كنا نراه سحرياً في بعضنا
استحال شيئاً آخر
على زند الرتابة في الحلم وفي الإيقاع.
ننسى الوعود التي وشوشناها
ننسى التعاشق
على صخب زُبناء حانة أنطوان.
* قصيدة مالارميه Brise marine


نزيه بحراوي

الوقت كاف

الغرفة صامتة، لا أحد يقفل الباب
والدخان لا يأتي من أي جهة. لا بد للعطل من معنى،
هذه الليلة على الأقل.
الحكايات الصغيرة تسافر عبر الألسنة.
ثمة أشباح تلاحقنا، لا يهمنا أمرها فندخن أكثر،
ونغني أكثر، ونحب أكثر. ولما يقترب البحر من أشيائنا،
نعشق أفكارنا الغريبة عن الغد،
نعشق طلاء السيارات
والأسفار التي بلا مسافة. نعشق الموت السريع
كنسيان أو فضاء أغنية.
الأزرق فينا يعرف أكثر منا
أن النهاية بلا معنى، أن المعنى نفسه بلا معنى، وأن الوقت كاف لكل حماقات الدنيا، كاف للهروب من النوافذ، من الأغاني التجارية ومطاعم الوجبات الخاطفة،
كاف للنوم في الخلاء، للحب التلقائي، كاف لحديث مهووس
عن مشاريع فاشلة.

عبد الهادي السعيد

سينما

والآن
بعدما بَرَيْنا طويلا أقلام الرصاص
ورسمنا أعلى الصفحة
بضحكٍ كثير
شمساً صفراءَ باهتة
بعدما كدّسْنا الثلجَ بوفرةٍ فوق القمم
ها نحن نسقط في الطيبوبة دون سابق إنذار
نتحول فجأة إلى معاطفَ ثخينة
أو إلى حانات
نتكوّم حطباً يابساً قرب المواقد
أو نكون مذياعاً
تحضنهُ ممرضاتُ المياوَمة
في بلدةٍ بلا مستعجلات
الآنَ نحن نرفو الغيوم
طمعاً في مستقبل تتخلّله الذّرَة
ونرفو ابتساماتنا
طمعاً في قبلة
والآن بعدما أخفقت أيادينا البارّة
في نفض الروماتيزم
عن مفاصل ربّات البيوت
ها نحن نهرع صوب الشوارع
دون قبعات
نمشي عميقاً في الدروب كي نكتب
ولأننا بَقينا فطريين
ولم نسكب يوماً في قصائدنا جوليا كريستيفا
فلا غرابة أن تُغرم بنا
فتيات الأحياء البعيدة
أكثر مما يعشقن دافيد بيكام وباولو كويلو وعرب آيدل
نحن الذين لم نخف يوماً من الغيلان
في حكايا الجدات
ولا من الطيور في الأفلام
حتى هتشكوك
نحبه أن يمرق من أمام الكاميرا
في كل شريطٍ مرّة
ونحب كونتن تارانتينو
أكثر من مفاوضات السلام المائعة
تماماً مثلما نفضل البوشار
على قنوات الأخبار الحية
الآن
بعدما تناقشنا بعنف حول اسم المومس
قررنا ألا يكون كوثر
درءاً للنمطية
وألا تكونَ هي ذاتَ قلب كبير
كما يحدث في الآداب والفنون
لأننا بقليل من الخيال
تصورناها بفم مادّيّ
ومتشنج
هكذا
يستطيع البسطاء
من دافعي الضرائب
أن يشتموها بسخاء
حين يسكرون.

نفيس مسناوي


الضوء المنبعث من البعوضة

منذ حوالى دقيقتين
والبعوضة تتعبُ من قنديل الغرفة المسائية
كي تحوم حولي، وهي ضوء صغير بالإضافة إلى ضوء القنديلِ
فثمة وراء كل ضوء بعوضة
وثمة وراء كل ضوء صغير ما وراء الضوء
هذه البعوضة وقد بدأت تسامرني هذا المساء
لن أحطمها بيدي الغليظة التي تعوّدَتْ على الاحتجاجْ
ولن أدوسها برجلي المهرولة دائماً نحو الغابة
ولن أنفثها بهواء فمي كما أنفث دخان القلق
البعوضة لن تؤذيني ما دمت لن أؤذيها
وبما أنها محتاجة إليّ كأي لا واحدةٍ لم تجد ضالّتها في دمٍ آخر
فلن أطردها من الغرفةِ
وسأمنح، ببرودة دمٍ، دمي إلى البعوضة هذه،
بعوضةُ أفكاري،
وسأشرب بهدوء قهوتي المسائية.

منير الإدريسي

الملعقة

فقدتها..
الملعقة الدائريّة التي كانت تعكس النافذة عند المائدة
الملعقة التي كنت أرى فيها وجهي الصّغير
في كلّ وجبة
تلك الملعقة
الشّاسعة، التي رأيتُ فيها الأشجار منعكسة أيضا، دفعة واحدة
الملعقة التي من معدن فضيٍّ قد ذابت في سطر القصيدة
إلى الأبد
وفي الأبد هذه الأخطاء الشّعرية الصّغيرة
لقول : كنتُ أعيشُ طفولتي كالملاك .

سكينة حبيب الله


من أين جاء هذا الزجاج

كالقناني بعد انتهاء الحفلة،
أنتَ الآن خاوٍ
وهذا لا يعني أنك صرت بلا جدوى
مكانك على حافة جدار العالم
حيث تأتي الأيام الرديئة بطلقاتها
وتتدرَّب
على التَّنشين.

لا جدوى

وها أنتِ
مثل نزيل بدار عجزة استيقظ وندم
تُجرجرين قدميكِ
بين أروقة العالم،
وحيدة أيتها الكلمات
وحيدة...
وقد خبا وميضكِ.