إن كان ثمة من يتلطى بمتلازمة «المؤسس» و«الوارثين» لمحاصرة النص الديني عبر التمييز بين أصحابه بتمايز مراتبهم في القداسة، ومسايرة من هم في أعلى الهرم لتعرية اللاحقين، فإن باحثتنا ليست من هذا النوع إطلاقاً. في كتابها «امرأة الفقهاء وامرأة الحداثة، خطاب اللامساواة في المدونة الفقهيّة» (دار التنوير)، تطرح الباحثة والكاتبة ريتا فرج كماً وافراً من الأسئلة الجديدة في إطار منهجي دقيق، عن أصول السيطرة الذكوريّة في المجتمع العربي والإسلامي.
رغم ذلك، تحسم نقاشاً مهماً بعد ايفائه بالمعالجات، أبرز عناوينه أنّ محمد كان نسوياً وعمر كان ذكورياً. واستناداً إلى أسانيد أنتروبولوجيّة الطابع، تنتقد جزءاً من الاستشراق الذي اعتبر أن تعدد زوجات محمد كان مرتبطاً بالشبق الجنسي، مذكرةً بأنه كان زعيماً سياسياً يريد تعزيز علاقته مع بقية القبائل في الجزيرة العربية. وهذا الحفر في التاريخ صائب أركيولوجياً، تتبعه فرج بخلاصة أخرى، مفادها أن عمر ــ كما يصف مؤرخون ـ كان الرجل العنيف مع النساء كأنه الناطق الرسمي للمقاومة الذكورية ضد مشروع المساواة النبوي. ويشبه هذا ــ من الخارج ــ نقاشاً طويلاً في الحالة المسيحيّة، بحيث يتسلل كثيرون إلى «يسوع التاريخي» للإضاءة على نظرته إلى المرأة. نظرة برأيهم تتقدم السائد في عصرها، بينما يحشر بولس الرسول في الزاوية، بكونه الرجل الذي لم يكن يحب أن يسمع صوت المرأة في الكنيسة. وعلى قياس مشابه، تعرّج فرج على أبحاث مهمة، تقول بوجود تيار من الصحابة، لم ير في مشروع النبوة، إلا ذاك التغيير الذي يطاول الحياة العامة والحياة الروحية. أما الحياة الخاصة، فيجب أن تبقى محكومة بعادات الجاهلية، على نقيض المساواة بين الجنسين التي نادى بها القرآن الموحى للنبي العدناني.
وعلى العكس من أصحابه المتمسكين بذكوريّة القبائل، يبرز استنتاج آخر، بحيث يشير احتماء النبي بخديجة في بدايات الوحي وصولاً إلى دعمها المعنوي له بعد انقطاع المقدس لفترة الى أنموذج الانثى/ الحاضنة، التي شاركته انوار التوحيد. وهي بحدسها الامومي/ الانثوي مثلت له الملجأ والملاذ، خصوصاً أنّها ملكت استعداداً توحيدياً/ روحياً اقلقها مع غيرها من بعض المكيين، الباحثين بدورهم عن نبي مرسل يربطهم بأب التكوين (ابراهيم). وليست خديجة المرأة الوحيدة في حياة الرسول، بل ثمة محطات مفصليّة أخرى وسجاليّة في تاريخ المسلمين، تتسق بطلاتها مع النسويّة روحاً. بعد وفاة الرسول، خاضت عائشة (الأقرب إلى قلبه) نوعين من الحروب: الأولى ــ وهي الأكثر أهميّة في البحث وارتباطاً به ــ هي قيادة التيار النسوي ضد الغلبة الذكورية، من خلال اتجاهات عدة من بينها الرد على الأحاديث التي نسبها ابو هريرة للرسول، وورد بعضها في صحيح البخاري. ويحسب للباحثة نجاحها في عزل موقع علي بن أبي طالب السياسي والثيولوجي عند الإماميّة، عن سجالها الأخير الذي تحصره بالدور الأنتروبولوجي لعائشة في تلك الحقبة.
لقد ربط الفقهاء بين المرأة والجسد ربطاً محكماً، وأٌغلقت أبواب كثيرة بسبب هذا الربط وتبعاته السلطوية. (تتطرق فرج في الفصل الثالث إلى الإسلام والبطريركيّة على نحوٍ مفصل). ومعالجات فرج، في هذا الإطار وافرة بالأمثلة. مثلاً، تظهر معالم الذكورية ــ الفقهية في عقد النكاح بشكل مباشر، فالمذهب الحنفي يعرّفه بأنّه عقد وضع لتملك المتعة بالأنثى قصداً، أي اختصاص الزوج بمنافع بضع زوجته وسائر أعضائها استمتاعاً، فيما تسيطر على الفتاوى التيمية اللغة العنفية، فنجد كلمات مثل: الضرب، التمكين، الطاعة، الاذن، النشوز، الولي، الفاسق، الخلع، الطلاق الرجعي، الإيلاء. مفردات لا تحتاج إلى براهين للاستدلال على منشئها السلطوي. ورغم إسهابها في نقد أدبيات الفقهاء وارهاصاتهم، فإنها تضيء على من تعتبرهم من المجددين. تشير إلى أنّ «فضل الله (السيد محمد حسين) يعطي الأولوية للقرآن على أن يقارب الحديث منه». وهنا، برأيها يكمن التجديد في منهجه مقارنة بالفقه التقليدي المتعلق بقضايا المرأة، فهو من المجتهدين الذين يحتكمون الى أدلة الاحكام الأربعة: القرآن والسنّة والاجماع ودليل العقل. وهو أيضاً يخضع الحديث للنقد عبر درجة قربه أو ابتعاده من القرآن، ما يجعله يسلك طريقاً مغايراً. وإن كان الاحتكام إلى ما يحتكم إليه فضل الله مدخلاً ممكناً إلى التجديد، أو إلى الحداثة، لا تجديداً كاملاً، إنما مسايرة للحداثة، فإن فرج لا يفوتها الغوص في حقل حيوي آخر في ما يخص المرأة، وهو «جمهوريّة الحجاب». من الناحية النظرية، يكتسب الحجاب أهمية مزدوجة، فهو يبرهن على السلطة الذكورية وعلى التفريق الجندري بين الجنسين. إلى ذلك، تسيطر مركزية الأنا الذكورية على جسد الأنثى في الإسلام الفقهي الذي نظر إلى المرأة من خلال أمكنة العورة ومفاتنها. ونتيجة الرهاب من فتنة الأنثوي، تكدست الآراء الفقهية ونهضت بعدتها على أساس مصادرة حق المرأة المسلمة في التعبير والمشاركة في المجال العام. وهكذا، أصبحت المرأة في الاسلام البطريركي سجينة الجسد وسجينة الفقهاء.
وإذ نتحدث عن «امرأة الفقهاء»، تستوقف الباحثة نقطة مهمة، هي احتكار الرجل للاجتهاد والتشريع، وإنكار نعمة العقل على النساء. لهذه الأسباب ولغيرها، لا تقع النساء في الإسلام تحت سيطرة الفقه الذكوري فحسب، اذ أنّ للمنظومة المجتمعية والثقافية الشعبية، تأثيرات سلبية على المرأة العربية بصرف النظر عن انتمائها الديني. ولو استحضرنا بعض الأمثال الشعبية، لاكتشفنا أنّ الموروث الشعبي أشد عنفاً على المرأة، من دون التقليل من سطوة الموروث الفقهي. تقريباً، تخلص الباحثة إلى أن القطيعة بين الأنثوي والمقدّس، ليست بسبب القرآن قطعاً الذي يبدو في آيات الشأن المقصود أكثر ميلاً للمساواة، أو لترسيخ هذه المساواة. أما القطيعة، فسببها الفجوة الزمنيّة بين النص والتأويل، وبين التفسير التقليدي واللاتأويل، وتالياً افتقاد الساحة للفقهاء المجددين (تمرّ على نماذج منهم في الكتاب). وإن اتفق القارئ مع فرج على توصيف الأزمة بين المرأة بصورتها الراهنة في المشهد الإسلامي العام، وبين الإسلام، بأنها أزمة «قطيعة»، فلا مناص من الاعتراف بأن القطيعة فعل زمني، وأن المشكلة ليست في النص، بل بقراءة النصوص كما تُقرأ الصخور. ذلك رغم أن فرج، تفرج عن نوافذ في بحثها، بحيث علّقت إصدار الإحكام، حيث يتوجب ذلك، مفسحةً المجال أمام أسئلة عملاقة متعلقة بمحاسبة النص الديني. نص تعتبر ربما أنه لا يوجد مشكلة كيانيّة بينه وبين المرأة. المشكلة إذن مع الفقهاء. لكن، ربما صار الفقهاء بفعل زمنٍ طويل نصوصاً، وصار تأويلهم شاقاً، أكثر من تأويل النصوص نفسها!